في ظل تصاعد النزوح من مدينة الفاشر غرب السودان، تتكشف ملامح أزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث يعيش مئات الأطفال في مخيمات النزوح دون وثائق تثبت هويتهم، ما يحرمهم من الغذاء والرعاية الصحية والتعليم، ويضعهم في مواجهة مباشرة مع خطر الاستغلال والانهيار النفسي.
مأساة آدم
في إحدى زوايا مخيم طويلة، يجلس الطفل آدم فوق كومة من التراب، ممسكًا بعصا مكسورة يرسم بها دوائر على الأرض. لا يعرف عمره، ولا يملك أي وثيقة تثبت اسمه أو نسبه. وعندما يُسأل عن والديه، يهمس بصوت خافت أن والدته توفيت أثناء الطريق، بينما لا يعرف شيئًا عن والده. هذه الحالة ليست فريدة، بل تتكرر في أرجاء المخيم، حيث يعيش أطفال بلا سند قانوني أو عائلي، في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من الحماية والرعاية.
طفل بلا اسم
داخل خيمة متهالكة تغطيها ثياب بالية، تحتضن مريم إسماعيل، وهي أرملة في الثلاثينيات من عمرها، طفلًا لا يتجاوز الثالثة. تقول إنها عثرت عليه يبكي قرب الطريق المؤدي إلى طويلة، وكان وحيدًا لا يتكلم، ولم يتعرف عليه أحد في المخيم. أطلقت عليه اسم نور، وقررت رعايته مع أطفالها، لكنها تواجه صعوبة كبيرة في تأمين حصته من الغذاء والعلاج، بسبب غياب أي وثيقة تثبت هويته. وتؤكد أن المنظمة التي تقدم المساعدات رفضت تسجيله دون إثبات رسمي، ما يحرمه من حقوقه الأساسية.
أطفال تائهون
مريم ليست الوحيدة التي تواجه هذا التحدي، فهناك عشرات الأسر في المخيمات تحتضن أطفالًا تائهين دون أي وضع قانوني أو إداري. هذا الوضع يحرمهم من أبسط حقوقهم في الغذاء والرعاية، ويجعلهم خارج مظلة الدعم الذي تقدمه المنظمات الإنسانية الوافدة إلى المنطقة. ومع غياب آليات التوثيق الرسمية، تتسع دائرة الأطفال غير المسجلين، ما يفاقم الأزمة الإنسانية في المخيمات ويزيد من تعقيد جهود الإغاثة.
نزوح جماعي
في السادس والعشرين من أكتوبر، أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة الفاشر، ما أدى إلى موجات نزوح جماعية في مختلف الاتجاهات. العائلات فرت تحت وابل من الرصاص، تحمل أطفالها أو تجرّهم، وأحيانًا تتركهم خلفها دون قصد وسط الفوضى والدمار. ومنذ سيطرة هذه القوات على آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور، وثّق ناجون ومراقبون محليون سلسلة من الانتهاكات، شملت إعدامات ميدانية واغتصابات ونهبًا واسعًا، ما دفع آلاف الأسر إلى النزوح العشوائي، تاركة وراءها أطفالًا بلا سند ولا هوية.
وجهة طويلة
مخيم طويلة، الواقع على بعد نحو 68 كيلومترًا غرب مدينة الفاشر، أصبح الوجهة الأقرب والأكثر أمانًا نسبيًا للنازحين. لكن كثيرًا من الأطفال وصلوا إليه بمفردهم، دون آباء أو أمهات، ودون أي وثائق تثبت هوياتهم. بعضهم لا يعرف اسمه الكامل، وآخرون لا يتذكرون حتى أسماء أمهاتهم. هذا الواقع يضعهم في حالة من العزلة القانونية والاجتماعية، ويجعل من الصعب إدماجهم في برامج الإغاثة أو التعليم أو الرعاية الصحية.
صدمة نفسية
عائشة عبد الرحمن، وهي متطوعة ميدانية في مخيمات طويلة، تقول إنهم يستقبلون يوميًا أطفالًا لا يعرفون أسماءهم، ولا يملكون أي وثائق. بعضهم لا يتذكر حتى اسم والدته، خصوصًا من هم دون الخامسة من العمر. وتضيف أن الصدمة النفسية التي تعرضوا لها أربكت ذاكرتهم، فكثير منهم شهدوا القصف أو رأوا جثثًا أو فقدوا إخوتهم أثناء الفرار. وتؤكد أن هؤلاء الأطفال فقدوا كل شيء: الأسرة، الهوية، والأمان، ويحتاجون إلى رعاية نفسية عاجلة تعيد إليهم الإحساس بالاستقرار.
آثار الصدمة
تشير عائشة إلى أن بعض الأطفال يرفضون الحديث أو يصرخون عند سماع أصوات مرتفعة، بينما يختبئ آخرون عند رؤية أشخاص غرباء. وتوضح أن هذه السلوكيات تعكس آثارًا نفسية عميقة، لا يمكن معالجتها بالغذاء فقط، بل تتطلب تدخلًا متخصصًا في الرعاية النفسية. وتؤكد أن الحاجة إلى الدعم النفسي لا تقل أهمية عن الحاجة إلى الغذاء والمأوى، خاصة في ظل غياب الأهل والوثائق الرسمية التي تربط الطفل بأي جهة مسؤولة.
بيان اليونيسيف
في بيان رسمي نشرته عبر صفحتها على فيسبوك، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن آلاف الأسر تفر من العنف المتصاعد في مدينة الفاشر، وتصل إلى مخيم طويلة في حالة إنهاك شديد، تعاني من الجوع وسوء التغذية وفقدان أفراد من عائلتها. وأوضحت أن معظم النازحين من النساء والأطفال، وكثير منهم انفصلوا عن ذويهم خلال رحلة النزوح. وتعمل فرق المنظمة ميدانيًا لتقديم الدعم الغذائي والرعاية الصحية والمياه النظيفة، لكنها تواجه تحديات كبيرة في ظل غياب التنسيق الرسمي وتدهور الأوضاع الأمنية.
عجز المنظمات
رغم الجهود المبذولة، تؤكد اليونيسيف أن حجم الكارثة يفوق قدرات المنظمات الإنسانية، خاصة مع تزايد أعداد النازحين يومًا بعد يوم. وتواجه الفرق الميدانية صعوبات في الوصول إلى جميع المحتاجين، بسبب غياب التنسيق الرسمي، وانعدام الأمن، والعوائق اللوجستية. هذا الوضع يضع الأطفال غير المسجلين في دائرة التهميش، ويجعل من الصعب تقديم الدعم الكامل لهم، سواء في الغذاء أو العلاج أو الحماية النفسية.
غياب الدولة
محمد شرف الدين، مسؤول العمل الإنساني في لجنة فك الحصار عن الفاشر، يقول إن ما يحدث في المخيمات يمثل كارثة إنسانية صامتة، تهدد جيلاً كاملاً بالضياع. ويضيف أن الأطفال بلا شهادات ميلاد أو أسماء قانونية، ما يعني أنهم خارج النظام التعليمي والرعاية الصحية، وحتى خارج الإحصاءات الرسمية. ويؤكد أن المشكلة لا تكمن فقط في غياب الوثائق، بل في غياب الدولة نفسها، إذ لا توجد جهة مسؤولة عن حصر هؤلاء الأطفال أو تقديم الدعم النفسي لهم، والمنظمات الإنسانية تعمل بجهود فردية غالبًا ما تصطدم بعوائق أمنية ولوجستية.
نداء عاجل
في ختام حديثه، يطلق شرف الدين نداءً عاجلًا، مشيرًا إلى أن مدينة الفاشر بحاجة إلى تحرك جماعي من الإعلام والمنظمات والمجتمع، لتسليط الضوء على مأساتها. ويؤكد أن هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد أرقام، بل يمثلون مستقبل السودان، وإذا لم يتم التحرك الآن، فإن البلاد تواجه خطر إنتاج جيل جديد من المهمشين، الذين قد يتحولون لاحقًا إلى ضحايا للاستغلال في صراعات قادمة.
تقديرات ميدانية
بحسب تقديرات غير رسمية حصلت عليها الجزيرة نت من متطوعين ميدانيين، فإن عدد الأطفال الذين وصلوا إلى بعض القرى حول الفاشر دون ذويهم يتجاوز 300 طفل، من بينهم نحو 70 طفلًا في مخيمات النازحين بمنطقة طويلة. هذه الأرقام تعكس حجم الأزمة، وتؤكد أن الظاهرة تتسع يومًا بعد يوم، ما يستدعي تدخلًا عاجلًا لتوفير الحماية القانونية والنفسية لهؤلاء الأطفال.
خطر الاستغلال
يحذر ناشطون من أن ترك هؤلاء الأطفال دون حماية قانونية أو نفسية قد يجعلهم عرضة للاستغلال، سواء في أعمال غير مشروعة، أو في تجنيدهم ضمن جماعات مسلحة، أو حتى في شبكات الاتجار بالبشر مستقبلًا. وتقول فاطمة عبد الله، ناشطة محلية، إن ما يحدث في الفاشر جريمة إنسانية مكتملة الأركان، فالأطفال يُتركون لمصيرهم بلا حماية، بلا تعليم، وبلا رعاية، وهذا لا يمثل فقط انتهاكًا لحقوقهم، بل تهديدًا لمستقبل السودان كله.
انتهاك ممنهج
تضيف فاطمة أن الطفل الذي لا يعرف اسمه، ولا يملك وثيقة، ولا يتلقى تعليمًا، هو مشروع ضياع. وتؤكد أن الأمر لا يتعلق بحالات فردية، بل بظاهرة تتسع يومًا بعد يوم. ورغم أن السودان صادق على اتفاقية حقوق الطفل التي تكفل لكل طفل الحق في الاسم والهوية والرعاية الصحية والتعليم والحماية من الاستغلال، فإن الواقع في الفاشر يكشف عن انتهاك ممنهج لهذه الحقوق، وسط غياب المساءلة وضعف التدخل الدولي الفعّال.
حماية قانونية
تطالب منظمات حقوقية محلية ودولية بضرورة فتح تحقيقات مستقلة لتوثيق الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في مخيمات النزوح حول مدينة الفاشر، ووضع آليات عاجلة لتسجيل الأطفال فاقدي السند الأسري. وتؤكد هذه الجهات أن توفير الحد الأدنى من الحماية القانونية والإنسانية لهؤلاء الأطفال بات ضرورة ملحة، خاصة في ظل غياب الدولة وتراجع قدرة المنظمات الإنسانية على الاستجابة لحجم الكارثة.
واقع منتهك
ورغم أن السودان صادق على اتفاقية حقوق الطفل، التي تكفل لكل طفل الحق في الاسم والهوية والرعاية الصحية والتعليم والحماية من الاستغلال، فإن الواقع في الفاشر يكشف عن انتهاك ممنهج لهذه الحقوق. الأطفال الذين فقدوا أسرهم ووثائقهم يعيشون خارج النظام الرسمي، بلا تعليم، بلا رعاية صحية، وبلا حماية قانونية، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والانهيار النفسي، ويهدد مستقبلهم بشكل مباشر.
مستقبل مجهول
في ظل غياب الحلول الجذرية، يبقى الأطفال مثل آدم ونور وأقرانهم في انتظار من يعيد إليهم أسماءهم وهوياتهم، وربما طفولتهم المسلوبة. وبينما تغيب الدولة وتصمت المنظمات الدولية، تتسع دائرة الخطر، ويزداد عدد الأطفال غير المرئيين، الذين قد يتحولون لاحقًا إلى ضحايا للاستغلال أو أدوات في صراعات قادمة. هذه الأزمة لا تمثل فقط مأساة إنسانية، بل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل السودان، ما يستدعي تحركًا عاجلًا وشاملًا من كافة الجهات المعنية.
