أصدرت الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، في الأول من سبتمبر/أيلول الجاري، قرارا ينص على استيفاء المعايير القانونية لإثبات ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة.
وقد أيد 86% من بين 500 عضو في الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، القرار الذي ينص على أن “سياسات إسرائيل وأفعالها في غزة، تفي بالتعريف القانوني للإبادة الجماعية المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)”.
ومن المفارقة أن اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية، جاءت على خلفية تعرض اليهود للهولوكوست في أوروبا.
التوحش وانهيار رواية الضحية
إسرائيل كانت على الدوام بحاجة إلى مبررات أخلاقية لوجودها، تمثلت في رواية “الضحية”، حيث راج القول؛ إن اليهود المضطهدين وضحايا المحرقة يستحقون تعويضا سياسيا ومعنويا في إنشاء دولة لهم، ليس في أوروبا التي اضطهدتهم، ولكن في أرض فلسطين، زعما أنها بلا شعب وأنها الأرض الموعودة لليهود.
نجحت الماكينة الدعائية الصهيونية في الترويج لإسرائيل، باعتبارها نموذجا إنسانيا متحضرا وامتدادا للحضارة الغربية الراعية والحامية لحقوق الإنسان، في وسط منطقة جرى شيطنتها وتصوير شعوبها بأنها إرهابية متطرفة.
بناء الصورة و”الوعي” في العقل الغربي غير الرسمي، استغرق عقودا من العمل الدؤوب حتى نجح بطريقة مذهلة استطاعت أن تُخفي جوهر الصراع، وحقيقة إسرائيل كمشروع استعماري.
لكن ذلك البناء الضخم من الدعاية انهار بطريقة دراماتيكية مذهلة أيضا، لأنه بُني على الكذب والغش، فما إن اكتشف العالم المضلَل حقيقة إسرائيل المتوحشة حتى انتفض رافضا الاحتلال والإبادة الجماعية التي يرتكبها أحفاد من تعرضوا للإبادة.
لقد سقط القناع عن هذا الكيان المارق المجرم الذي قتل نحو 63 ألف فلسطيني، منهم أكثر من 18 ألف طفل، وجرح أكثر من 160 ألفا، ناهيك عن أكثر من 10 آلاف مفقود، وتدمير مدن بأكملها في قطاع غزة، والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، علاوة على التجويع الممنهج؛ بمنع الماء، والغذاء، والدواء عن الأطفال والمدنيين العزل.
أهمية هذه الحقيقة؛ إسرائيل المتوحشة المحتلة لأرض فلسطين، أنها تنزع عنها الشرعية الأخلاقية، فكل فعل أو مشروع سياسي لا يحظى بالشرعية الأخلاقية مصيره الفشل والاندثار، لأنه لن يجد مسوغات البقاء والقبول، فإسرائيل كيان احتلالي طارئ على هذه الأرض، وهي جسم غريب لا يمتّ لهذه المنطقة بصلة، لا من ناحية التاريخ أو الثقافة أو اللغة.
إن انتفاضة شعوب العالم، وخاصة الغربية منها، ضد الاحتلال الإسرائيلي وتوحشه والمطالبة بمحاسبته، تعني أن إسرائيل بدأت تفقد أهم مقومات بقائها وهي الحاضنة الغربية لها.
وإن كانت الأنظمة الغربية ما زالت تكتفي بإشهار المواقف دون ترجمتها عمليا على أرض الواقع، فهذا الأمر مرشح للتغير التدريجي لصلته بالانتخابات البرلمانية في تلك الدول، لا سيما في ظل رفض الشعوب مواقف حكوماتها الضعيفة، ومطالبتها بمعاقبة إسرائيل على جرائمها.
الحرب تفقد شرعيتها
في السنة الثانية من الحرب على غزة، وبعد نجاح إسرائيل في توجيه ضربات قوية غير قاتلة ضد حركة حماس وحزب الله، بدأ الشعور بالقلق يتعاظم لدى الرأي العام الإسرائيلي.
الجمهور الإسرائيلي المتعَب توقع أن توقف حكومته الحرب لصالح إطلاق سراح الأسرى لدى حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، وأن تعمل على استخلاص العبر، وتعيد ترميم المشهد الإسرائيلي داخليا وخارجيا، بعدما تضررت صورة إسرائيل بقوة في أميركا، وأوروبا، وأستراليا.
ما زاد قلق الرأي العام الإسرائيلي ونخبه الليبرالية، علاوة على تعاظم الخسائر البشرية (900 جندي وضابط قتيل)، وتأثر الاقتصاد والحياة الاجتماعية لمئات آلاف جنود الاحتياط، هو ازدياد عزلة إسرائيل دوليا وسلبية نظرة الشعوب لها.
ففي آخر استطلاع للرأي أجرته جامعة هارفارد ومؤسسة هاريس، نهاية أغسطس/آب الماضي، بدا أن 60% من الشباب الأميركي (18-24 سنة)، يفضلون حركة حماس على إسرائيل، ما يعد انقلابا في المشهد.
قلق الرأي العام الإسرائيلي ونخبه، بدأ يتسرب بدوره إلى قيادة الجيش والأجهزة الأمنية التي تطالب بوقف الحرب والذهاب لاتفاق يُفضي لإطلاق سراح كافة الأسرى لدى حركة حماس، في ظل عبثية الحرب والفشل في تحقيق الأهداف الطوباوية اللاهوتية التي يعتنقها قادة اليمين الصهيوني المتطرف، والمتمثلة بإبادة الشعب الفلسطيني، واحتلال باقي أراضيه.
وفي هذا السياق، نشر موقع واللا العبري نتائج استطلاع للرأي، 26 أغسطس/آب الماضي، كشف فيه أن 73% من الإسرائيليين مع وقف الحرب، وكذلك 75% من الجنود والضباط يؤيدون وقف الحرب، فيما بلغت نسبة الجنود والضباط الفاقدين حافزية القتال نحو 40%.
هذا مؤشر مهم على فقدان الحرب شرعيتها الداخلية، كما فقدانها الشرعية الدولية، حيث يطالب العالم إسرائيل بوقف الحرب والإبادة والتجويع للشعب الفلسطيني، ورفع الحصار وإدخال المساعدات، وهو ما عبر عنه التصويت الأخير في مجلس الأمن الدولي نهاية أغسطس/آب 2025، بموافقة 14 دولة، مقابل رفض الولايات المتحدة الأميركية منفردة.
فائض القوة والانهيار الكبير
أمام إسرائيل فرصة سانحة لوقف الحرب عبر اتفاق مع حركة حماس، لاستعادة الأسرى، والخروج من مأزق الفشل في تحقيق الأهداف السياسية، والاستجابة لرغبة أغلبية الجمهور الإسرائيلي، واستدراكها الانهيار في علاقاتها السياسية الخارجية.
لكن مجرم الحرب بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف، يسلكون طريقا مغايرا يتسم بالعناد الأيديولوجي اللاهوتي، الذي عبر عنه مؤخرا نتنياهو بقوله؛ إنه في مهمة روحية تاريخية لأجل إسرائيل الكبرى.
هذا يعني أن إسرائيل مقدمة ليس فقط على محاولة تهجير الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وإنما الحسم عسكريا مع دول الجوار ابتداء من لبنان، حيث تطالب إسرائيل والولايات المتحدة بنزع سلاح حزب الله تحت سيف الوقت والتهديد، توطئة لتوجيه ضربة متوقعة لإيران؛ لإغلاق ملف القوى المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
وإن كانت الأولوية الآن تتمثل في حسم المعركة مع قوى المقاومة، فلاحقا ستكون سوريا في عين العاصفة انسجاما مع توجهات إسرائيل التي نتابعها في جنوب سوريا، وانسجاما مع قول وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش؛ إن حدود القدس تنتهي في دمشق.
وفي ذات السياق، ليس مستبعدا أن تلجأ إسرائيل للتدخل في الأردن باحتلال الجبال الشرقية لنهر الأردن المطلة على فلسطين بذرائع أمنية أو لاهوتية (الأرض الموعودة)، كما قال وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كرعي، في 22 أغسطس/آب 2025: “هناك ضفتان لنهر الأردن، هذه لنا وتلك أيضا”.
بنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف، يرون أن لديهم فرصة تاريخية يجب استغلالها بالقضاء على كل القوى المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم التمدد جغرافيا في المنطقة لتحقيق أحلامهم اللاهوتية المتعلقة بإسرائيل الكبرى، اعتقادا أنهم بذلك يستدعون نزول المسيح المخلص عبر قتل أكبر عدد ممكن من العرب والمسلمين في مجازر دموية.
يساعدهم في هذا التوجه دعم الرئيس ترامب وإدارته اليمينية، التي ترى في القوة مصنعا “للسلام” المزعوم، أي السيطرة والهيمنة بالقوة.
فالإدارة الأميركية لا يهمها شعوب المنطقة ولا مصيرها البائس، بقدر ما تهتم بالمحافظة على مصالحها الاقتصادية، وسيطرتها على الجغرافيا السياسية عبر قواعدها المنتشرة، وأساطيلها البحرية، وحاملة طائراتها الكيان الإسرائيلي.
واشنطن فيما يبدو، لا تمانع في توسع إسرائيل جغرافيا على حساب الدول العربية، فلم نسمع إدانة أميركية لسياسات إسرائيل التوسعية، أو إدانة لتصريحات مسؤوليها المتطرفة، بل تابعنا التزاما أميركيا عميقا بالدفاع عن إسرائيل ظالمة أو مظلومة وذلك يعود لسببين:
- الأول؛ توجه لاهوتي، عبر عنه رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، عندما زار الضفة الغربية الشهر الماضي، بقوله: “إن يهودا والسامرة (الضفة الغربية) حق شرعي للشعب اليهودي، وهي تنتمي إليهم بحكم الكتاب المقدس”. وأضاف: ” يهودا والسامرة هي الخط الأمامي لدولة إسرائيل، ويجب أن تبقى جزءا أساسيا منها حتى وإن لم يرَ العالم كذلك، فنحن نقف إلى جانب إسرائيل”، داعيا إلى “تذكير الشعب الأميركي بجذوره اليهودية-المسيحية التي تشكلت في أرض إسرائيل”.
- الثاني؛ يتعلق بالمصالح الإستراتيجية؛ فالإدارة الأميركية ما زالت تسعى لمساعدة إسرائيل في السيطرة والهيمنة على المنطقة، ومن ثم قيادتها بعد التخلص من أعدائها، حتى يتسنى لواشنطن التفرغ للصين وروسيا، وقوى الشرق الصاعدة والمنافسة للولايات المتحدة الأميركية.
هذا التوجه الخطير يحمل في ذاته بذور انهيار إسرائيل وسقوطها؛ لأنها لن تقدر على الهيمنة بالقوة العسكرية على شعوب المنطقة التي ما زالت ترفض الاحتلال والمشروع الصهيوني الاستعماري، وما يزيد هذا الرفض تبجح إسرائيل وغطرستها وسلوكها المتوحش، وما جرى في غزة هو نموذج مصغر يمكن تخيل وقوعه في الدول العربية إن تمكنت منها إسرائيل.
ولذلك فإن إسرائيل ذات الـ 7 ملايين نسمة، والمنهكة اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا، طوال سنتين من الاستنزاف في غزة، لن تقوى على السيطرة والصمود في الجغرافيا العربية، رغم الدعم الأميركي، إذا واجهت مقاومة في لبنان، وسوريا، والأردن، ومصر المعرضة للتهديد بفكرة إسرائيل الكبرى.
إسرائيل اللاهوتية المتطرفة، الغارقة في الأساطير وفي وهم قوتها، تظن أنها قادرة على فرض أجنحتها الاستعمارية على المنطقة، وأن المسيح المخلص ينتظر النزول من السماء لقيادتها ضد العرب والمسلمين وللسيطرة على العالم.
ولكنها في ساعة الحسم ستجد نفسها وحيدة في الميدان، غارقة في بؤس أحلامها المتخيلة، وستدفع ثمن رعونتها وجنوحها من لحمها الحي، ولن تستطيع واشنطن ولا المنظومة الغربية إنقاذها من الغرق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.