عندما رأت أبيبولا أوغوندايرو خريطة خشبية جميلة، اعتقدت أنها ستكون قطعة ديكور رائعة لجدرانها، وفعلت شيئا لا يفكر فيه معظم المشترين العاديين، إذ أرسلت إلى المصنعين سؤالا يسيرا، ولكنه مشحون.
سألت: “أي إسقاط خريطة استخدمتم؟”، مشيرة إلى طريقة تمثيل الخرائط على سطح مستو.
لم يرد البائعون قط، لكن أوغوندايرو اشتبهت في أنهم استخدموا إسقاطا إشكاليا. وبعدما أُحبطت من تصرفهم، رفضت تقديم طلب شراء.
هوَس أوغوندايرو بإسقاطات الخرائط ليس عشوائيا، إذ تقود الشابة (28 عاما) حملة بقيادة أفريقية لحمل مزيد من المؤسسات العالمية والمدارس على التوقف فورا عن استخدام “إسقاط خريطة مركاتور” (Mercator Map projection) –وهو الإصدار الأكثر شيوعا لخريطة العالم المعترف به عموما– لأنه يقلص حجم أفريقيا، وكثير من دول الجنوب العالمي، بينما يضخم بشكل غير متناسب المناطق الغنية والقوية في العالم.
على سبيل المثال، تظهر غرينلاند بحجم مساوٍ نسبيا لأفريقيا، بينما في الواقع، تتسع قارة أفريقيا لغرينلاند أكثر من 14 مرة. أما أوروبا، التي تُصور أكبر من أميركا الجنوبية، فهي في الواقع نصف حجمها.
يدفع نشطاء مثل أوغوندايرو بدلا من ذلك إلى استخدام إسقاطات الخرائط “متساوية المساحات” (Equal area)، التي يقولون إنها تمثل بشكل أكثر دقة بروز القارة الأفريقية.
منذ أوائل مايو/أيار، قامت أوغوندايرو، بصفتها قائدة حملة في “أفريقيا بلا مرشحات” (Africa No Filter)، وهي منظمة غير ربحية تعمل على تغيير التصورات السلبية عن أفريقيا، بمضايقة مؤسسات كبيرة مثل الأمم المتحدة بحملة “صححوا العالم”. إذ يتم تشجيع الناس على التوقيع على عريضة عبر الإنترنت للضغط على حكوماتهم للامتثال. وقالت أوغوندايرو إن معظم الناس لا يعرفون عن هذه التشوهات ويتفاعلون بالدهشة والغضب.
وقالت أوغوندايرو -للجزيرة- إنهم تلقوا كثيرا من ردود الفعل، مثل: “يا إلهي، لم أكن أعلم حتى أن هذا يحدث”، وأحدهم قال: “لدي عم قرر دعم هذا لأنني أخبرته أنه يمكنك وضع الولايات المتحدة والصين والهند داخل أفريقيا، وشعر بالخيانة الشديدة. كان يقول: يا إلهي، لم تكن لدي أي فكرة”.
وأضافت أوغوندايرو أن اختراق المؤسسات كان أصعب، لكنها توقعت بعض المقاومة لهذا الموضوع الحساس والمثير للجدل.
لقرون، ناقش الخبراء السؤال التالي: هل يمكن لأي شخص أن يصور بدقة عالما ثلاثي الأبعاد كرويا على سطح مستو؟ هل من الممكن أخذ جسم مستدير، مثل كرة القدم على سبيل المثال، وتقطيعه، ولصقه على لوحة، والحصول على تمثيل دقيق؟
يخلص عديد من الخبراء إلى أن الإجابة بالنفي المطلق. يقولون إن الخرائط -بطبيعتها- كذبة؛ تتنازل دائما عن شيء ما: المساحة، أو المسافة، أو شيء آخر. ومع ذلك، يجادل آخرون بأن الخرائط شبه المثالية موجودة ويجب تسليط الضوء عليها.
تعتقد أوغوندايرو أن “خريطة مركاتور” شائعة الاستخدام تؤثر سلبا على أفريقيا والأفارقة، وأن استخدامها على نطاق واسع لقرون مرتبط بعقود عديدة من الاستعمار الذي عانت منه القارة. والآن، كما قالت، بعد حوالي 70 عاما من الاستقلال عن المستعمرين، حان الوقت للضغط من أجل التغيير.
“خريطة مركاتور” شائعة الاستخدام تؤثر سلبا على أفريقيا والأفارقة، وأن استخدامها على نطاق واسع لقرون مرتبط بعقود عديدة من الاستعمار الذي عانت منه القارة.. وهي تغذي الصور النمطية بأن أفريقيا بلد واحد، “نحن نعيش في عالم غالبا ما يُساوى فيه الحجم بالقوة”.
وأضافت أن “خريطة مركاتور” تغذي الصور النمطية بأن أفريقيا بلد واحد، موضحة: “نحن نعيش في عالم غالبا ما يُساوى فيه الحجم بالقوة”.
وأوضحت أن هذه الخريطة “لها تأثير ضار على الطريقة التي نتخذ بها القرارات في حياتنا اليومية، وعلى كيفية اتخاذنا لقرارات الأعمال، والطريقة التي نحلم بها، وحتى الطريقة التي ينظر بها غير الأفارقة إلى القارة كوجهة سياحية واستثمارية. إنها أكثر الأكاذيب استمرارا بشأن أفريقيا”.
هذه الخريطة “لها تأثير ضار على الطريقة التي نتخذ بها القرارات في حياتنا اليومية، وعلى كيفية اتخاذنا لقرارات الأعمال، والطريقة التي نحلم بها، وحتى الطريقة التي ينظر بها غير الأفارقة إلى القارة كوجهة سياحية واستثمارية. إنها أكثر الأكاذيب استمرارا بشأن أفريقيا”
جدل محتدم دام لقرون يعود إلى الظهور
عرف رسامو الخرائط منذ أوائل القرن الـ20 أن إسقاط مركاتور إشكالي.
وطور هذا الإسقاط رسام الخرائط الفلمنكي جيراردوس مركاتور عام 1599، وكان هذا الإسقاط من أوائل الإسقاطات التي مثلت مسارات الإبحار المقوسة والخيالية كخطوط مستقيمة مرئية. بساطته في الملاحة البحرية رسخت شعبيته في ذلك الوقت، ولكن سرعان ما أصبح من الصعب تجاهل أخطائه الجسيمة.
قال ليندسي فريدريك براون، أستاذ الجغرافيا بجامعة أوريغون، عن خريطة مركاتور: “إنها تحافظ على الأشكال والزوايا، وهذا جيد للملاحة، لكنها فظيعة بالنسبة للمقياس”. الخريطة هي الأنسب لرسم الخرائط المحلية وتستخدمها منصات رقمية مثل خرائط غوغل (Google Maps).
ومع ذلك، عندما يتم تكبيرها لتصبح خريطة عالمية، تصبح مركاتور إشكالية، كما قال براون. وأضاف أن أخطاء الخريطة لم تكن على الأرجح مؤامرة ضد أفريقيا أو الجنوب العالمي، لكن استمرار استخدامها -كما قال- سياسي بطبيعته.
“أخطاء الخريطة لم تكن على الأرجح مؤامرة ضد أفريقيا أو الجنوب العالمي، لكن استمرار استخدامها سياسي بطبيعته”.. جزء من سبب انتشار استخدام مركاتور هو أنها كانت متاحة على نطاق واسع للخرائط البحرية، ولكن أيضا لأنها تبدو صحيحة كرؤية للعالم بالنسبة للأشخاص الذين كانوا ينظرون إليها، الأشخاص الذين تكون بلدانهم أكبر قليلا
ويضيف براون أن “جزءا من سبب انتشار استخدام مركاتور هو أنها كانت متاحة على نطاق واسع للخرائط البحرية، ولكن أيضا لأنها تبدو صحيحة كرؤية للعالم بالنسبة للأشخاص الذين كانوا ينظرون إليها، الأشخاص الذين تكون بلدانهم أكبر قليلا”.
حاولت عديد من إسقاطات الخرائط بمرور الوقت سد ثغرات مركاتور، لكنها جميعا تتنازل عن عامل أو أكثر. هذا جعل الأمر صعبا على مناصري العدالة الاجتماعية الذين يتطلعون إلى دعم إسقاط يمثل الجنوب العالمي بشكل أفضل.
![The Mercator projection is the most commonly used map [File: Stephane Mahe/Reuters]](https://azemnews.com/wp-content/uploads/2025/08/22-1749537842.webp)
ومع ذلك، هزت ادعاءات رسام خرائط واحد عالم رسم الخرائط عام 1973، مما أثار موجة من الإدانة من ناحية، ومن ناحية أخرى، حشدت أتباعا مخلصين.
أعلن الناشط الألماني آرنو بيترز أن “إسقاط بيترز” الخاص به هو الخريطة الدقيقة “الوحيدة”، والبديل الحقيقي لنموذج مركاتور.
انتقد بيترز -الذي سُجن والداه على يد النازيين وركز على عدم المساواة الاجتماعية بوصفه صحفيا وأكاديميا- إسقاط مركاتور، ووصفه بأنه “متمركز حول أوروبا”.
الحماس الذي روج به بيترز ومؤيدوه للإسقاط كإنجاز علمي واختراق في مجال العدالة الاجتماعية قارب ما سماها البعض بالدعاية. وأدى ذلك إلى اهتمام مجموعات معنية مثل المجلس الوطني للكنائس في الولايات المتحدة وتبنيها الفوري للخريطة.
ومع ذلك، سارع النقاد إلى انتقاد بيترز في أمرين، إذ أشار مراقبون إلى أن الخريطة كانت مشوهة بشكل مختلف فقط: فبينما يجعل إسقاط مركاتور المناطق القريبة من القطبين تبدو أكبر بكثير، يمثل إسقاط بيترز الأحجام الدقيقة نسبيا في جميع الأنحاء، ولكنه يمدد قليلا المناطق القريبة من خط الاستواء عموديا، والمناطق القريبة من القطبين أفقيا.
قال براون، موضحا المشكلة الثانية: “كان هناك أيضا حقيقة أن هذه الخريطة قد تم تقديمها بالفعل بواسطة رسام خرائط آخر قبل عقود”.
بالفعل، نشر العالم الأسكتلندي جيمس غال لأول مرة إسقاطا مطابقا في مجلة علمية عام 1855، لكنه لم يُلاحظ. يقول بعض الباحثين إنه لا يوجد دليل على أن بيترز انتحل عمل غال بشكل صريح، لكن النقاد يقولون إن فشله في ذكر الباحث السابق لا يزال إشكاليا.
في عام 2016، عاد الجدل إلى الظهور بقوة متجددة بعد أن تحولت المدارس العامة في مدينة بوسطن الأميركية إلى ما يشير إليه كثيرون الآن بإسقاط “غال-بيترز”. قال المسؤولون إن هذه الخطوة كانت جزءا من جهد دام 3 سنوات “لإنهاء استعمار المناهج الدراسية”. وقال المعلمون إنهم ذهلوا لرؤية الطلاب يشككون في نظرتهم للعالم بعد هذا التحول.
ومع ذلك، انزعج عديد من الخبراء وهواة الخرائط من حقيقة أن بوسطن اختارت بيترز، وبالتالي، أعطت الإسقاط أهمية متجددة. تواصلت الجزيرة مع مدارس بوسطن العامة للتعليق.
خريطة مثالية؟
وسط دراما مدارس بوسطن، قررت مجموعة من الباحثين أنهم سئموا من بيترز وشرعوا في فعل شيء ما.
قال رسام الخرائط برنارد جيني، الذي يدرس التصور “الغامر” في جامعة موناش الأسترالية، إن توم باترسون، وهو رسام خرائط متقاعد من المتنزهات الوطنية التابعة للأمم المتحدة، اتصل به لهذه المهمة. وبالتعاون مع مهندس البرمجيات بويان سافريتش، أنشأ الفريق عام 2018 خريطة متساوية المساحات أطلقوا عليها اسم إسقاط “الأرض المتساوية” (Equal Earth).
هذا الإصدار، الذي يشهد توسع أفريقيا بشكل مثير للإعجاب، يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه أقرب شيء إلى خريطة مساحات مثالية. وهو نفسه الذي تدفع به حملة أوغوندايرو.
ضحك جيني خلال مكالمة عبر زووم، موضحا أن “الأرض المتساوية” لا تزال ليست تمثيلا مثاليا للأرض: “ولكن ربما يكون هذا اسما طموحا بعض الشيء”. وأضاف: “لقد سئمنا ببساطة من عودة ظهور بيترز، وتساءلنا لماذا يذهب الناس إلى ذلك، بينما هو ليس الأفضل حتى من حيث أي شيء”.

يحاول الإسقاط الجديد تصحيح إسقاط روبنسون، الذي أنشأه الأميركي آرثر إتش روبنسون عام 1963. يستخدم عديد من العلماء خريطة روبنسون لأنها أكثر توازنا بصريا، على الرغم من أنها تتنازل عن المساحة والحجم والمقياس، وتضخم بشكل خاص المناطق القريبة من القطبين الشمالي والجنوبي.
أوضح جيني: “حاولنا التوصل إلى نسخة من روبنسون لا تشوه المساحة… لذلك قمنا بتمديدها بطريقة لا يتم فيها تكبير أو تقليص المساحات المختلفة. لذا فإن غرينلاند أصغر 14 مرة من أفريقيا على الكرة الأرضية، وهي أيضا أصغر 14 مرة على خريطة الأرض المتساوية”.
قال جيني إن الفريق لم يشرع قط على وجه التحديد في تصحيح بعض أبرز أخطاء إسقاط مركاتور. ولكن بشكل لا واع -كما قال- كانوا يعلمون أنهم يريدون أن تمثل خريطتهم بشكل أفضل المناطق المشوهة تاريخيا مثل أفريقيا.
وقال العالم: “أعتقد أن أي جغرافي سيدعم هذه الفكرة”.
ارتفعت شعبية “الأرض المتساوية” بعد أن رآها عالم من وكالة ناسا عبر الإنترنت مباشرة بعد نشرها، وتحولت المنظمة على الفور إليها.
كما تبناها البنك الدولي، إذ جربت المؤسسة، منذ عام 2013، إسقاطات مختلفة، بما في ذلك خريطة روبنسون، ولكنها استقرت عام 2024 على خريطة “الأرض المتساوية”.
وقال متحدث باسم مجموعة البنك الدولي للجزيرة: “مجموعة البنك الدولي ملتزمة بضمان التمثيل الدقيق لجميع الناس، على جميع المنصات”.
قالت أوغوندايرو من منظمة “أفريقيا بلا مرشحات” إن التقدم بطيء ولكنه ثابت. وأضافت أن تغيير المنظمات البارزة لمواقفها يعني أن تحولا عالميا ممكن. ومع ذلك، لا يزال هناك كثير من العمل الذي يتعين على الأفارقة القيام به، حسب قولها.
تماما كما رسم “مركاتور” صورة تمثل بشكل بارز الجزء الخاص به من العالم، يحتاج الأفارقة أيضا إلى قيادة الطريق في الدفع بما يريدون، حسب أوغوندايرو. وأضافت أن أحد العوامل المفقودة هو أن الأفارقة لم يصروا بما فيه الكفاية على التغيير. لهذا السبب تحث حملتها أيضا البلدان الأفريقية والاتحاد الأفريقي على أن يكونوا دقيقين بشأن كيفية تمثيلهم على الخريطة.
قالت أوغوندايرو: “سيبدأ الأمر دائما بنا. ما لم تتعلم كيف تروي قصتك، سيرويها شخص آخر نيابة عنك. نحتاج أن نقول، بغض النظر عن سبب اختيارهم لفعل ما فعلوه، نحن نرى الحقيقة. هذه هي القصة التي نريد أن نرويها الآن. هكذا نريد أن نظهر بصريا على الخريطة”.