في الرابع والعشرين من يوليو/ تموز الماضي، وإثر محادثة طارئة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس حول الاعتراف بدولة فلسطين، اعتبر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أن مثل هذه الخطوة لا بد أن تكون ضمن “خطة عريضة تؤدي بالنهاية إلى حل مبني على أساس دولتين”.
والكل يتساءل اليوم، ما الذي جرى بعد ذلك بخمسة أيام فقط، تحديدا يوم الثلاثاء 29 يوليو/ تموز 2025، ليخرج كير ستارمر وبصورة دراماتيكية من مكتبه في داونينغ ستريت، وبعد اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء استمر ساعة ونصفا، ليوجه خطابا للشعب البريطاني والعالم، معلنا نية حكومته الاعتراف بدولة فلسطين مع موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف سبتمبر/ أيلول القادم.
اعتبر العديد من المحللين، أمثال الصحفي الشهير في صحيفة “آي”، إيان دنت، أن كلمة رئيس الوزراء كانت “مبدئية وتاريخية، سوى أن فداحة الوضع تتطلب أكثر من ذلك”.
كانت صيغة البيان حافلة بالشروط، بل وبلغة التهديد، لإسرائيل وحركة حماس، حيث قال إن الاعتراف سيتم ما لم تقم إسرائيل “بخطوات كبيرة لرفع المعاناة عن غزة والموافقة على وقف إطلاق النار، والالتزام بسلام دائم”- أي أنه إذا قامت إسرائيل بذلك لن يتم الاعتراف بدولة فلسطين! وفي نفس الوقت أكد أنه يجب على حركة المقاومة الإسلامية حماس “إطلاق جميع الرهائن، وأن تسحب نفسها من أي ترتيبات مستقبلية لحكم القطاع”.
ولتبرير التغيير الذي طرأ على موقفه خلال الأيام الخمسة، أوضح أن الدافع الرئيسي لتوقيت البيان والموقف الجديد للحكومة البريطانية الناتج عنه، هو القناعة المتزايدة لديه بأن “فرص تحقيق (خطة عريضة تؤدي بالنهاية إلى حل مبني على أساس دولتين) تكاد أن تختفي”.
تباينت ردود الأفعال بين معارض للبيان، ومرحب به، وقدر لا يُستهان به من المشككين بنواياه. حيث أتى رد الفعل الإسرائيلي على لسان رئيس الوزراء، يليه الموقف الأميركي على لسان وزير الخارجية، وصحبه مواقف للعديد من التكتلات والمنابر الصحفية الموالية للموقف الإسرائيلي، مثل ديلي تلغراف، التي رددت تصريح نتنياهو بأن “ستارمر يكافئ حماس في فلسطين”، وقد تبعتها صحيفتا التايمز وديلي ميل في نفس التوجه.
وفي إطار تلك الحملة، قام 40 عضوا في مجلس اللوردات بتوجيه تحذير للمدعي العام البريطاني بأن الاعتراف بدولة فلسطين يتعارض مع القانون الدولي، كما عقد مجلس الممثلين اليهودي البريطاني اجتماعا استثنائيا، سيليه لقاء مع الحكومة لاستيضاح موقفها.
وفي المقابل، كان هناك العديد من المناصرين للقضية الفلسطينية المرحبين بالقرار والمنتقدين في نفس الوقت للشروط التي وضعها ستارمر، كما أشار إلى ذلك إيان دنت.
ومما يطالب به أصحاب هذا الرأي، هو أن يتبنى ستارمر موقفا أكثر حزما يشمل حظرا تاما لتصدير السلاح إلى إسرائيل، بالإضافة إلى تعليق اتفاقية الشراكة التجارية بين البلدين، والضغط على الدول الأوروبية لتبني نفس الموقف.
ومما لا شك فيه أن هناك ضغطا متزايدا على رئيس حزب العمال من داخل الحزب والحكومة، حيث وقع ما يزيد على 220 عضوا برلمانيا- يمثلون تسعة أحزاب، نصفهم ينتمي لحزب العمال، بحسب ما أوردت البي بي سي- على رسالة تدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين.
كما أن هناك العديد من أعضاء الحكومة المعتبرين يدعمون هذا التوجه، منهم أنجيلا راينر نائبة رئيس الحزب، وإيفيت كوبر وزيرة الداخلية، وإد ميليباند وزير البيئة وهو رئيس سابق للحزب، وليزا ناندي وزيرة الثقافة والإعلام والرياضة، وويز ستريتينغ وزير الصحة.
كما توضح استطلاعات الرأي باستمرار، مثل تلك الصادرة عن مؤسسة يوغوف 18 يونيو/ حزيران 2025، عن تزايد نسبة المطالبين من البريطانيين بوقف إطلاق نار فوري، وفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وتنفيذ قرار محكمة العدل الدولية بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي، والاعتراف بدولة فلسطين.
يتنامى هذا الضغط مع بروز معارضة قوية داخل الحزب ضد بعض السياسات الداخلية، مثل تلك الأخيرة المتعلقة بتخفيض نسبة الدعم المقدمة للفئات المستحقة والتي صوت ضدها 47 من نواب الحزب، هذا بالإضافة إلى تعثر العديد من السياسات في تحقيق أهدافها، مثل تلك الخاصة بتخفيض عدد المهاجرين إلى بريطانيا.
لهذا السبب، اعتبر آخرون أن بيان رئيس الوزراء البريطاني ستارمر هو محاولة لامتصاص الغضب المتنامي لدى شرائح- تزداد اتساعا- في أوساط حزب العمال، حيث إن معظم المعارضين لبعض السياسات الداخلية، كتلك المذكورة، هم أنفسهم من أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية.
بيد أن رئيسة لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، إميلي ثورنبري، في مقابلة مع بودكاست “نيوز إيجنت” بُث في اليوم التالي لخطاب ستارمر، دافعت بشدة عن الموقف الجديد للحكومة، وأكدت أن الاعتراف بدولة فلسطين سيتم في موعده؛ لأن إسرائيل غير متوقع منها إعطاء أي اعتبار للشروط التي طرحها ستارمر.
كما ترى ثورنبري أن هناك تيارا تقوده المملكة العربية السعودية، وفرنسا، وبريطانيا لتحريك الجمود في عملية السلام المبنية على حل الدولتين، وبالتالي فإن موقف الحكومة البريطانية يأتي في هذا السياق.
ربما من المناسب في مثل هذه اللحظات تذكر دور بريطانيا ومواقفها التاريخية من القضية الفلسطينية والتي لم تكن بريئة أو منصفة، ولا سيما خلال الحقبة الاستعمارية، بل كانت أساس الكارثة التي تزداد تفاقما كل يوم.
يُشتهر عن رئيس الوزراء البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى لويد جورج أنه كان يتابع متابعة شخصية الحملة التي شنها القائد العسكري البريطاني اللورد ألنبي على فلسطين واحتلاله القدس يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1917، كهدية “الكريسماس” لذلك العام مقدّمة للشعب البريطاني.
وقد قال لاحقا عن نفسه في خطاب ألقاه 1920: “عندما كنت صبيّا، نشأت في مدرسة تعلّمت فيها عن تاريخ اليهود أكثر بكثير مما تعلّمت عن تاريخ بلادي… كانت فلسطين أرض الكتاب المقدس، وأرض مدرسة الأحد التي كنت أرتادها”.
بهذه الروح تعاملت بريطانيا وما زالت مع فلسطين، ومنذ الحرب الصليبية الثالثة التي قادها الملك ريتشارد قلب الأسد، ملك بريطانيا حينها.
ولا ننسى في العصر الحديث أن السيد توني بلير- رئيس وزراء بريطانيا للفترة من 1997 إلى 2007- قد عُين بعد خروجه من الوزارة كممثل عن الرباعية المعنية بفلسطين- أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا- ولم يقدم شيئا لبناء السلام في المنطقة خلال السنوات الثماني التي قضاها في المنصب، بل زاد الوضع تعقيدا.
وكان يُتهم من قبل البعض، مثل الصحفي الشهير بيتر أوبورن في مقاله الصادر حينها في صحيفة ديلي تلغراف 12 ديسمبر/ كانون الأول 2012، بأنه “يعتبر مصالح بريطانيا وإسرائيل متطابقة، ويرفض حتى الدعوة إلى وقف إطلاق النار…”.
وهنا تجدر الإشارة إلى كلمة وزير الخارجية البريطاني الحالي، ديفيد لامي، التي جاءت مباشرة بعد تصريح كير ستارمر، والتي ألقاها في المؤتمر الدولي رفيع المستوى المنعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، في الفترة من 28 إلى 30 يوليو/ تموز 2025، والذي كان يهدف إلى دفع خطوات عملية نحو تحقيق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وقد قُوبلت كلمته بتصفيق حار من الحاضرين، ومن بينهم وزراء خارجية العديد من الدول العربية وممثل عن السلطة الفلسطينية، وذلك عندما أعلن نية الحكومة البريطانية الاعتراف بدولة فلسطينية.
في خطابه، ذكّر ديفيد لامي بأن آرثر بلفور- الذي سبقه في منصب وزير الخارجية- كان قد وقّع عام 1917 رسالة تعهّد فيها بأن “ينظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”. ومع ذلك، أشار إلى أن وعد بلفور جاء مصحوبا بتعهد رسمي بأنه «لن يُفعل شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للشعب الفلسطيني أيضا».
وأضاف لامي: “لم يتم الوفاء بهذا التعهد، وهذه مأساة تاريخية لا تزال تتكشف حتى يومنا هذا”.
هذه المراجعات والاعترافات من قبل رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة العمال الحالية لا شك مهمة، ولو أن البعض لا يراها تعدو مناورات في الوقت الضائع، خاصة إذا لم تغير الولايات المتحدة من موقفها المبني على مطلق الدعم لإسرائيل.
ومما ذكرته رئيسة لجنة الشؤون الخارجية، إميلي ثورنبري، في مقابلتها المذكورة، أنها خلال زيارتها إلى الولايات المتحدة منذ أيام قليلة، ولقائها مع العديد من أعضاء الكونغرس، لم تجد أحدا مستعدا لمجرد مناقشة الوضع في غزة.
بل، ويضاف إلى ذلك رد فعل وزير الخارجية الأميركي على مؤتمر الأمم المتحدة الأخير- الذي ألقى فيه وزير الخارجية البريطاني كلمته- حيث قرر عدم السماح لممثلي السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بالدخول إلى الأراضي الأميركية بعد اليوم، وذلك بحسب تقرير لوكالة رويترز نُشر يوم الخميس 31 يوليو/ تموز 2025.
يكاد يُجمع معظم المحللين أن قرار بريطانيا ذاته لن يغير شيئا من الواقع. لكن، وبرغم كل المآسي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، وخاصة الحالية التي وُصفت من قبل العديد من المؤسسات الدولية- مثل منظمة أمنستي الدولية، و”بتسيلم” الإسرائيلية- بأنها “تصفية عرقية” و”جرائم ضد الإنسانية”.
برغم هذا كله، يأتي قرار كل من بريطانيا وفرنسا الأخير بالاعتراف بدولة فلسطين ليعطي دفعة قوية لكرة الثلج المتدحرجة أصلا والتي قوامها يزيد على 150 دولة عضوا في الأمم المتحدة معترفة بدولة فلسطين، ولربما يمنح الإدارة الأميركية- خاصة الحالية بقيادة ترامب المعروف بآرائه الثورية المفاجئة، والذي قابله ستارمر قبل يوم واحد من إعلان الموقف الجديد- فرصة لرفع الورقة الحمراء، أو على الأقل الصفراء، في وجه الحكومة الإسرائيلية الحالية التي ترتكب أفظع الجرائم بحق شعب يستحق الحياة على أرضه بعزة وكرامة كسائر شعوب الأرض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.