بيروت- للعام الخامس على التوالي، يعلو صوت اللبناني عبدو متّى، والد العريف شربل متّى، الذي فقد حياته في انفجار مرفأ بيروت مساء الرابع من آب/أغسطس 2020.
لم يكن يتوقع الأب أن يفقد ابنه بهذه الطريقة المفجعة، وقال خلال وقفة لأهالي الضحايا في الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ “شربل لم يكن مقاتلا في جبهة حرب، كان موظفا يؤدي واجبه في مركز مدني بسيط، لكنه سقط ضحية انفجار لم يكن له ذنب فيه”.
ويصف رحلته طلبا للعدالة بأنها “ركض بلا نهاية خلف سراب الحقيقة”. وقال “في بلدنا، الفساد لا يعد استثناء، بل هو القاعدة التي تعطل التحقيقات، وتمنع كشف الحقيقة، وتُبقي دماء أبنائنا بلا حق”.
لا يخفي عبدو استياءه من السلطة السياسية والقضائية التي يرى أنها تتحمّل كامل المسؤولية عن تعثر التحقيقات، ويقول “نسمع وعودا وشعارات، لكن لا نرى فعلا يُعيد الحقوق ولا يحاسِب المجرمين، دماء أبنائنا لا تزال مهضومة في دوائر الفساد المستشرية”.

ذاكرة مشؤومة
وبكل تأثر وألم، لا تزال ذكرى الرابع من آب/أغسطس حاضرة في وجدان اللبنانيين، ومحفورة في صدور العائلات التي فقدت أحبتها في تفجير مرفأ بيروت قبل خمس سنوات.
في ذلك المساء المشؤوم، هزّ انفجار هائل العاصمة مخلفًا وراءه أكثر من 220 ضحية، ودمارا هائلا، وجرحًا عميقًا في النسيج الوطني والاجتماعي لم يندمل بعد.
وفي الذكرى الخامسة، شارك مئات من الأهالي حاملين صور أبنائهم وأقاربهم الضحايا في مظاهرة انطلقت بمسارين، الأول من ساحة الشهداء في بيروت، والثاني من مقر “فوج إطفاء بيروت” بمنطقة الكرنتينا، ووصلتا إلى مدخل المرفأ. وحضر المسيرة عدد من الوزراء والنواب من توجهات مختلفة.
وبمرور خمسة أعوام، لم تتحقق أية عدالة ينشدها أهالي الضحايا، ولا أي إنصاف تنتظره القلوب المكلومة. بل تبدو العدالة اليوم بعيدة كسراب يتلاشى في أفق الغموض السياسي والفساد المؤسساتي الذي يكتنف أروقة الدولة، حيث تشتعل النيران في تفاصيل الفساد وتتوارى الحقيقة خلف ستار من المماطلة والتعطيل.
محاسبة مؤجلة
ومن رحم هذا الإصرار، تولد شهادات موجعة تسردها العائلات عاما بعد عام. وفي هذه الذكرى القاسية تشارك الابنة التي فقدت والدتها ليلى متري الخوري، معاناة ذوي الضحايا.
تقول ليلى بمرارة للجزيرة نت “الدولة وعدتنا منذ العام الأول بفتح تحقيق جدي وعدم تعطيله، لكن العدالة لا تزال غائبة، والمحاسبة مؤجلة بلا مبرر”.
وتضيف بصوت حازم “نطالب بتحقيق شفاف وعادل، ومحاسبة كل من سمح بتخزين النيترات القاتلة في قلب بيروت، نريد أن يُحاسب الجميع، وأن يدخلوا السجن، كي لا تضيع دماء ضحايانا هدرا”.
ومن قلب الألم الذي يلازمها، تظل كلمات ماري خوري، والدة الضحية إلياس خوري، محفورة في الذاكرة وتعيدها بلا تردد “مطالبنا لم تتغير، نطالب بالعدالة لكل ضحايا هذا الانفجار، ولن نتراجع أو نهدأ مهما طال الطريق”.
وتتابع ماري بصوت يفيض بالألم “هذا الإصرار ينبع من جرح عميق لا يلتئم.. انتقلنا كعائلات من صدمة الفقدان إلى معركة طويلة وشاقة من أجل الحقيقة والعدالة، معركة لا تقل قسوة عن خسارتنا”.

“ألم مستمر”
وفي مشهد آخر من ذاكرة الألم، تتحدث ريتا حتّي، والدة الضحية نجيب حتّي من فوج إطفاء بيروت، عن الذكرى التي لم تغادر بيتها يوما.
تقول للجزيرة نت “لم يعد هذا اليوم ذكرى فحسب، بل هو ألمٌ مستمر يرافقنا كل لحظة، نلمس اليوم بعض الاستجابة من الدولة، ونأمل أن تكون هذه الخطوة بداية حقيقية وجدية نحو التغيير”.
وتضيف “القاضي طارق البيطار وعدنا بإطار زمني واضح لاتخاذ القرار، ونحن لن نتوقف عن الضغط والمطالبة حتى تتحقق العدالة التي انتظرناها طويلا”.
وتتكرر الكلمات ذاتها، بحسرة مضاعفة، في شهادة كارين حتّي، التي خسرت زوجها وشقيقها وابن عمها في لحظة واحدة.
تقول حتي للجزيرة نت إن “العائلات لم تعد تبحث عن كلمات معسولة أو وعود لا تُنفّذ، بل عن عدالة حقيقية ومحاكمة تليق بدماء أحبّائهم”.
وتضيف ‘الحضور الرسمي الكثيف في إحياء الذكرى هذا العام يمنحنا بصيص أمل، لكننا نحذر بوضوح: لا عدالة بلا قضاء نزيه وجدي، ولا حقيقة في ظل عراقيل متعمدة تُكبّل التحقيق”.
أما الياس معلوف، والد الضحية جورج معلوف، فيختصر الحكاية كلها بجملة واحدة تقطر وجعا “كان جورج يبتسم دوما ولم يؤذِ أحدا، لكنه سُلب منا بلا رحمة، والدته أعدت له مزارا أمام المنزل، والوجع لا يهدأ”.

في متاهات السياسة
وغرق التحقيق بشأن الانفجار الذي أسفر عن مقتل أكثر من 220 شخصا وإصابة أكثر من 6500 بجروح، خلال السنوات الماضية في متاهات السياسة اللبنانية المعقدة.
ومنذ وقوعه، عزت السلطات الانفجار إلى تخزين كميات ضخمة من نيترات الأمونيوم داخل المرفأ من دون إجراءات وقاية إثر اندلاع حريق لم تُعرف أسبابه. وتبين لاحقا أن مسؤولين على مستويات عدة كانوا على دراية بمخاطر تخزين المادة ولم يحركوا ساكنا.
وتعهّد رئيسا الجمهورية والحكومة بالعمل على تكريس “استقلالية القضاء” ومنع التدخّل في عمله، في بلد تسوده ثقافة الإفلات من العقاب.
وقال رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، أمس الأحد، إن معرفة الحقيقة وضمان المساءلة “قضية وطنية”، منددا بعقود من الإفلات الرسمي من العقاب.