بيروت ـ في الزاوية الشرقية من بيروت حيث يخفّ صخب الكورنيش وتبهت ملامح الأبراج الزجاجية، تبدأ الحكاية، حكاية حيّ لا يشبه غيره، اسمه “برج حمود”.
حي يبدو لأول وهلة كأنه خارطة متشابكة من أزقة ضيقة ومحال بسيطة وأرصفة لا تهدأ، لكنه في الحقيقة قطعة صغيرة من أرمينيا نسجت فوق تراب لبنان، بكل ما تحمله من ذاكرة ولغة وحِرفة.
هنا، لا تحتاج لأن تسأل عن الأرمن، فكل حجر في المكان يجيبك بلغته. واجهات المتاجر تومض بأحرف أرمنية، ورائحة “السجق” و”الباستيرما” تتسلل من الأفران الشعبية، والذهب يلمع في واجهات الورش الصغيرة، وكأنه يحكي قصص المهجرين الذين جاؤوا بالحرف من مرعش، وعاشوا للدهر.

الذهب يحكي بلغته
منذ أن خط الأرمن أول متجر صياغة في برج حمود تغيّر شكل الذهب في لبنان. أصبح أكثر دقة، أكثر صبرا، وأقرب إلى التحف الفنية منه إلى الحلي. عشرات الورش تتراص في الحي كحبات السبحة، كل واحدة منها تحكي سيرة عائلة توارثت المهنة كأنها إرث مقدّس.

صياغة الذهب هنا ليست مهنة عابرة، بل حرفة تتنفس اللغة الأرمنية وتشتغل على نبض الذاكرة. لا غرابة إذن أن يقصد اللبنانيون، وبعض السياح أيضا، برج حمود بحثا عن “قطعة أرمنية”، كأنها توقيع فني على الجسد.
“مرعش” في قلب بيروت
في أزقة الحي تسمع كثيرا عبارة “Bari Galust Sireli” أي “تفضل عزيزي”، وكأنها المفتاح السري للعبور إلى عالم من الحرفية.

الأرمن في برج حمود لم يندمجوا فقط في النسيج اللبناني، بل نسجوا فيه خيوطا خاصة بهم، ملونة كالأقمشة الأرمنية المطرزة، ومتقنة كحُليّهم الدقيقة.
تتفرع الأزقة وتتداخل، حتى تصل إلى شارع اسمه “مرعش”. الاسم وحده كفيل بإيقاظ الذاكرة، مرعش (Մարաշ) المدينة التي كانت ذات يوم مركزا حضاريا في السلطنة العثمانية، أصبحت اليوم اسما لشارع يحمل نبض التاريخ الأرمني في قلب بيروت.
هناك تحت أضواء خافتة تجد مشاغل حرفيين لم يغادروا المهنة منذ أجيال، ولا يزالون يطرقون المعدن وكأنهم يطرزون حكاياتهم الخاصة.

في أحد زوايا الحي، يعمل النحات اللبناني الأرمني أشود تازيان داخل مشغله الصغير، حيث تتحول الأخشاب والأحجار إلى منحوتات بديعة، ورشته ليست مكانا للعمل فقط، بل متحفا صغيرا يتنفس إرثا جماعيا بكثير من السكون والعمق.
حين يصبح الشتات نكهة
لكن لا تكتمل حكاية برج حمود دون أن تتوقف عند المذاق، ففي كل شارع تقريبا فرن قديم، أو مطبخ عائلي، أو محل صغير تفوح منه رائحة اللحوم المتبلة بالبهارات الأرمنية، “لحمة بعجين” تُخبز على طريقة الجدة، و”المعكرونة باللبن والثوم” تُطهى كأنك في بيت أرمني وسط يريفان عاصمة أرمينيا.

ثم هناك “بسترما مانو” الاسم الذي صار عنوانا في الحي منذ عام 1966. في هذا المكان، تتراص السندويشات كأنها أرشيف للنكهة، الباستيرما، السجق، الشاورما… كلها تُقدَّم بخبز طازج ومخللات منزلية.
لا أحد يأتي إلى الحي ولا يقف عند مانو، فالمحل ـ كما يقول الكسان ـ ليس مطعما بل “حالة” تُؤكل وتُحكى.
اللغة التي لم تغب
رغم تقلبات الزمن، بقيت اللغة الأرمينية حية في برج حمود، كما لو كانت تتحدى النسيان، تُسمع في المتاجر، وتُدرَّس في المدارس، وتُقرأ على لافتات الطرق، شبكة المدارس الأرمنية هنا لم تكن مجرد مكان للتعليم، بل جدار حماية للهوية.

أما المراكز الثقافية والجمعيات فهي مسارح مفتوحة لعرض ما بقي من الذاكرة، من الرقصات إلى المسرحيات، من القصائد إلى المعارض الفنية، كل شيء هنا يحتفي بالبقاء، لا بالنجاة من الحرب فقط.
حكاية وصول طويلة
لم يأتِ الأرمن إلى لبنان دفعة واحدة بل على مراحل موجعة، كانت الموجة الأولى خلال الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1916، حين عبر نحو 40 ألفا منهم إلى لبنان، ثم لحقهم 20 ألفا آخرون عام 1939 بعد اشتداد الحرب العالمية الثانية.

أقاموا أولًا في الكرنتينا قرب مرفأ بيروت، ثم انتشروا في برج حمود، وطرابلس، وصيدا، وصور. وفي كل مكان حلّوا فيه تركوا أثرا من ثقافتهم، وبنوا مجتمعا لا يشبه الشتات، بل أشبه بوطن مُعاد تشيكله.
ذاكرة مفتوحة
زيارة برج حمود ليست كغيرها من جولات بيروت؛ إنها رحلة مختلفة، تبدأ بخطوة وتنتهي بدهشة.
في هذا الحي الذي لا يهدأ ولا ينام، كل شيء ينبض بالتاريخ: الأرصفة تنقل خطوات من عبروا، والجدران تحفظ ملامح من مرّوا، والروائح القادمة من المخابز والمحال تحكي قصة وطن بعيد ظل حيا في الذاكرة.

سواء جئت سائحا تبحث عن تجربة محلية، أو كنت بيروتيا تسعى لاكتشاف وجه مدينتك الآخر، فإن برج حمود يأخذك إلى ما هو أبعد من المشهد: إلى الطعم، إلى الحرفة، إلى اللغة، إلى الناس.
إنه حيّ صنع من نكبته حياة، ومن غربته هوية لا تشبه سواها. وكل لقمة تؤكل فيه، لها جذر في أرمينيا القديمة وفرع في حاضر بيروت، حيث تتقاطع الثقافات وتتشابك الحكايات، لتصنع تجربة لا تُنسى.