بلغت الأمم المتحدة هذا العام عامها الثمانين، وبقاؤها مؤسسة فاعلة حتى بلوغ المائة، رهنٌ بمدى استعداد الدول الأعضاء ومنظومة الأمم المتحدة نفسها لمواجهة الحقائق الصعبة والانخراط في إصلاحات جوهرية.
لقد وُلدت الأمم المتحدة من رماد الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف منها صون السلام، وحماية حقوق الإنسان، وتوحيد الشعوب. لكنها اليوم مهددة بأن تصبح كيانًا متحفيًا، يتخلف عن مواكبة صدمات المناخ، والانقسامات الرقمية، والتحولات الديمغرافية، والتشرذم الجيوسياسي المتزايد.
كمواطن من رواندا، أتأمل في مسيرة الأمم المتحدة بمشاعر مختلطة. ففي 1994، أثناء الإبادة الجماعية ضد التوتسي، خذل المجتمع الدولي رواندا عبر الأمم المتحدة. لكن فيما بعد، ساعدتنا الأمم المتحدة على إعادة بناء المؤسسات واستعادة الكرامة. واليوم تُعد رواندا من أكبر المساهمين في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. فعندما تعمل التعددية، فإنها تُحدث تحوّلًا حقيقيًا.
لكن مصداقية الأمم المتحدة تتآكل. فاستجابتها للأزمات تتسم بعدم الاتساق بشكل مقلق: تكون سريعة في بعض المناطق، ولا مبالية في أخرى. وتُجسّد مأساة المجتمعات الرواندية في شرق الكونغو الديمقراطية هذا التفاوت خير تجسيد.
فشعب “البانيامولينغي”، وهم مواطنون كونغوليون من أصول رواندية، يعانون منذ عقود من انعدام الجنسية والتهجير والعنف الممنهج والتمييز البنيوي.
ورغم أن مأساتهم موثقة جيدًا في تقارير جهات مثل “The New Humanitarian”، و”Genocide Watch” فإنها لا تحظى بأي اهتمام في مناقشات مجلس الأمن. ولا يُعد هذا مجرد سهو، بل هو فشل هيكلي. فالأعضاء الأقوياء في المجلس يحمون الوضع القائم، بينما تُمحى المجتمعات الضعيفة من جدول الأعمال.
وسؤال “هل الأمم المتحدة تفشل؟” يقودنا إلى سؤال أعمق: ما هي الأمم المتحدة فعلًا؟ إنها أكثر من مجرد الأمانة العامة في نيويورك.
إنها منظومة معقدة تتكوّن من ستة أجهزة رئيسية، و193 دولة عضوًا، وعشرات الوكالات. الجمعية العامة تُضفي الشرعية، ولكنها تفتقر للسلطة التنفيذية. ومجلس الأمن غالبًا ما يكون مشلولًا، أسيرًا للمصالح الوطنية والتجاذبات الجيوسياسية. والمجلس الاقتصادي والاجتماعي لا يُستفاد منه بالشكل الكافي. ومحكمة العدل الدولية تعاني من انتقائية الدول في الامتثال لأحكامها، ومجلس الوصاية أصبح من الماضي.
يبقى فقط أن الأمانة العامة هي الجزء الأكثر نشاطًا، وإن لم تكن دائمًا الأكثر فاعلية، إذ تقيدها البيروقراطية الجامدة والمساحة المحدودة للابتكار.
ومع ذلك، فإن موظّفي الأمم المتحدة ليسوا بيروقراطيين بلا وجوه، بل هم مواطنونا، ينتمون إلى كل بلد. يعملون بجد داخل منظومة تُبطئها القواعد القديمة والإجراءات المكررة والخمول المؤسسي.
وغالبًا ما تُفضي التفاعلات الداخلية بين الأمانة العامة، ولجنة المشتريات الرئيسية، والطبقات المتعددة من المراجعة، إلى التأخير بدلًا من الإنجاز.
لكن المشكلة لا تكمن في بيروقراطية الأمم المتحدة وحدها، بل أيضًا في سلوك الدول الأعضاء. فقد حوّل كثير منها الأمم المتحدة إلى أداة من أدوات سياساتها الخارجية، تستخدم المنصات متعددة الأطراف بشكل انتقائي لخدمة أجنداتها الضيقة.
وقد عمّق ذلك الانقسامات، وأدى إلى حالة من خيبة الأمل في بلدان الجنوب، التي باتت أكثر وعيًا بهذا الخلل. لكن بدلًا من التوحد، لا نزال عالقين في ثنائيات مصطنعة: شمال وجنوب، متقدم ومتخلف، تُخالف الرؤية التأسيسية للأمم المتحدة القائمة على المسؤولية المشتركة.
فهل فشل الأمم المتحدة سببه أجهزتها غير الفاعلة أم الدول الأعضاء المهملة؟ الجواب: كلا الطرفين ولا أحد منهما، فجوهر المشكلة هو غياب المساءلة. ويجب أن تصبح المساءلة حجر الأساس لأمم متحدة جاهزة للمستقبل. ينبغي محاسبة الأمانة العامة على أسس واضحة من الأخلاق والشفافية والكفاءة، ويجب تقييم كبار المسؤولين بناءً على الأثر الواقعي، لا على مؤشرات داخلية أو حسابات سياسية. ويجب استبدال القادة الذين لا يحققون الأداء المطلوب، وإنهاء ثقافة الحماية الداخلية.
لكن العبء لا ينبغي أن يُلقى على كاهل منظومة الأمم المتحدة وحدها. بل يجب على الدول الأعضاء أن تتحمل مسؤولياتها السياسية والمالية والأخلاقية. ويشمل ذلك تسديد الاشتراكات المالية المستحقة كاملة وفي موعدها، والامتناع عن التدخل في التفاصيل اليومية، وتنفيذ الإصلاحات التي طالما نادت بها. كما يشمل تمكين الأمم المتحدة من الابتكار وتحمل المخاطر المحسوبة، بدلًا من معاقبتها عند أول هفوة.
يجب إخضاع جميع الأجهزة الرئيسية الستة للأمم المتحدة لمراجعة مستقلة ومنتظمة. فلا جزء من هذه المؤسسة ينبغي أن يختبئ خلف الطقوس أو البيروقراطية. فالغموض والحصانة -سواء في الأمانة العامة أو داخل مجلس الأمن- يقوضان شرعية المنظمة.
وتُجسد سلطة الفيتو التي يتمتع بها الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن هذا الخلل. فقد أُنشئت في الأصل لضمان الاستقرار العالمي، لكنها أصبحت تُستخدم لحماية الحلفاء أو منع كشف الحقائق المؤرقة. فمن يُحاسب هؤلاء الخمسة؟ ومن يضمن أنهم يتصرّفون بما يخدم الأمن الجماعي؟ لا توجد آلية واضحة اليوم. هذا الصمت يُغذّي الإحباط، خصوصًا في المناطق التي خلّف فيها تقاعس المجلس عواقب مميتة.
في 2024، قدّم “الميثاق من أجل المستقبل” خارطة طريق واعدة لإحياء التعددية: الإنصاف الرقمي، وعدالة المناخ، وبناء السلام، وإدماج الشباب، وإصلاح النظام المالي العالمي. لكن التصريحات لا تُعدّ إصلاحًا. فبدون آليات ملزمة، وتمويل كافٍ، وإرادة سياسية، سينضم هذا الميثاق إلى قائمة الوعود المنسية.
لقد شهدت بنفسي ما يمكن أن تحققه الإصلاحات حين تتوافر العزيمة. فقد كنتُ جزءًا من عملية إصلاح عام 2018 التي أعادت هيكلة إدارة الأمم المتحدة ومنظومتها الإنمائية والأمنية.
وقد أظهرت إعادة تموضع فرق الأمم المتحدة في الدول، وإنشاء نظام المنسق المقيم، ما يمكن تحقيقه حين تتماشى الإصلاحات مع الأولويات الوطنية وتحظى بالدعم المالي. لكن حتى هذه المكتسبات اليوم مهددة، بسبب نقص التمويل وتراجع الالتزام السياسي.
نحن بحاجة إلى ميثاق جديد يقوم على المساءلة المتبادلة بين الأمانة العامة والوكالات والدول الأعضاء. ميثاق يطالب بالتنفيذ، ويكافئ الإنجاز، ويحاسب على الفشل. نحتاج إلى أمم متحدة لا تُقاس بعدد تقاريرها، بل بالأثر الملموس في حياة الناس.
ليست هذه دعوة للتخلي عن التعددية، بل لإنقاذها وإعادة تصورها.
وهذا يشمل إصلاح مجلس الأمن، لا بمجرد توسيعه ليشمل تمثيلًا دائمًا لأفريقيا، بل بجعل أساليبه أكثر شفافية وشمولية. كما يشمل الانتقال من الاستجابة للأزمات إلى الوقاية منها. ويشمل أيضًا ضمان أن تحترم حوكمة الفضاء الرقمي حقوق الإنسان وتمكّن الجنوب العالمي. ويشمل تأمين تمويل مستدام وغير مشروط، كي لا تبقى الأمم المتحدة رهينة لمساهمات مسيّسة وموجهة تقيّد استقلاليتها.
لا تزال هناك نقاط مضيئة، فوكالات مثل اليونيسيف، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، والاتحاد الدولي للاتصالات، تقدّم نماذج لأمم متحدة تتمحور حول الإنسان وتحقق أثرًا.
فهي تلامس الأرواح، وتعيد الكرامة، وتفتح الآفاق، لكن حتى هذه الوكالات بحاجة إلى أن تصبح أكثر كفاءة وتنسيقًا وتمويلًا مستدامًا لتواجه تحديات اليوم.
يجب ألا يكون الاحتفال بالذكرى الثمانين للأمم المتحدة احتفالًا ببقائها فقط، بل لحظة مواجهة. فإن لم تُصلح نفسها، فلن تُلغى، بل سيتجاوزها العالم. وستملأ الفراغ تحالفات إقليمية وشبكات خاصة وجهات تكنولوجية غير خاضعة للمساءلة. وهذا البديل أكثر خطورة.
هذه منظمتنا، ومستقبلها رهنٌ بمدى استعداد الدول الأعضاء لمطابقة أقوالها بأفعالها. لأن العالم لا يزال بحاجة إلى أمم متحدة فاعلة ومبدئية، لا كصدى نوستالجي لمؤتمرات سلام غابرة، بل كمحرّك حي للعدالة والإنصاف والتعاون. وإذا كانت الأمم المتحدة تطمح إلى ثمانين عامًا أخرى، فعلينا أن نعود إلى غايتها التأسيسية: لا السلطة، ولا الامتياز، بل الإنسان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.