في صباحٍ بارد من شتاء طهران، وبينما كانت الشمس تحاول اختراق الغيوم الثقيلة، وفي شارع “كريم خان زند”، على مقربة من محطة مترو “شهداء هفت تير”، التي سُميت لإحياء ذكرى ضحايا أحد التفجيرات الكبرى التي استهدفت قيادة الثورة الإسلامية في إيران عام 1981 وراح ضحيتها ثلاثة وسبعون مسؤولًا إيرانيا منهم قاضي القضاة آية الله محمد بهشتي، ثاني أقوى الشخصيات في الثورة بعد آية الله الخميني آنذاك، هناك دوّت أولى الهتافات!
لم يكن صوتًا واحدًا، بل صدى عشرات الحناجر التي خرجت تصرخ: “امرأة، حياة، حرية”. في ذلك اليوم من عام 2022، بدا أن الزمن في إيران يتكسر على نفسه، وأن لحظة تمرد قد اخترقت الجدار السميك للنظام. كان الأمر مخيفًا في إيران.
لكن من خلف الشاشات في واشنطن وتل أبيب، جلس محللون ومسؤولون يراقبون المشهد كما لو أنهم يشاهدون نهاية لفصل طويل من العداء.
بدا لهم أن الجمهورية الإسلامية، المُثقلة بالعقوبات والاحتجاجات والانقسامات الداخلية، تترنّح على حافة الهاوية. بعضهم كتب بجرأة أن سقوط طهران بات مسألة وقت. البعض الآخر استعاد سيناريوهات العراق وليبيا، ليقترح أن ضربة دقيقة، أو قصفًا جويًا محكمًا، أو حتى خطابًا موجهًا للشعب الإيراني، قد يكون كفيلا بإسقاط كل شيء.
غير أن بضعة أشهر فقط كانت كفيلة بقلب تلك التقديرات رأسا على عقب، إذ سرعان ما خفتت جذوة المظاهرات، وخرج المرشد الأعلى علي خامنئي ليقول إن “الأعداء أخطؤوا في حساباتهم مرة أخرى، وهم لا يعرفون هذا الشعب”.
فما لم يُدركه المحللون في واشنطن وتل أبيب، أو تجاهلوه لانحيازات تخدم الأجندة المسبقة لديهم، هو أن هذا النظام، بكل ما فيه من تعقيد، ليس مجرد واجهة سياسية يمكن تفكيكها من الخارج. بل هو شبكة متداخلة من الأجهزة، والذاكرة، والإيديولوجيا، والمصالح. دولةٌ قائمةٌ على جراحها، وعلى الخوف الجماعي من تكرار الماضي الإمبراطوري، أو من عودة الهيمنة الغربية تحت أسماء جديدة.
ولم تكن تلك المرةَ الأولى التي يخطئ فيها الغرب وإسرائيل في تقدير متانة النظام الإيراني، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، راهنت عواصم غربية على أن حرب صدام حسين على إيران، بدعم غربي ضمني، مع العزلة الخانقة، ستُعجّلان بانهيار جمهورية الخميني الوليدة، لكن النظام صمد.
وفي عام 2017، قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس الأميركي دونالد ترامب، إن “ثورة 1979 في إيران لن تبلغ عامها الأربعين”، لكنها بلغت عامها الأربعين وتجاوزته ببضع سنين.
ومؤخرا؛ عاد بنيامين نتنياهو وهو يُراهن من جديد على السيناريو ذاته، مُعوّلا على آثار العملية العسكرية التي شنَّتها إسرائيل على إيران فجر 13 يونيو/حزيران الجاري، على أمل أن تفتح الباب أمام حراك شعبي داخلي يقود إلى إسقاط النظام.

لم يتردد نتنياهو في توجيه نداء مباشر إلى الشعب الإيراني، داعيا إياه إلى “الوقوف في وجه النظام الاستبدادي”، وانضم إليه عدد من وزرائه وشخصيات نافذة في الحكومة الإسرائيلية، إلى جانب مجموعة من أبرز صقور السياسة الأميركية المعروفين بعدائهم الشديد لطهران.
ويبدو أن الضربات الإسرائيلية تجاوزت في أهدافها النطاق المُعلن، فبينما ركزت التبريرات الرسمية للهجوم على إبطاء تقدم إيران نحو امتلاك سلاح نووي، كشف نمط الضربات نوايا أعمق، تمثَّلت في محاولة إحداث اضطراب سياسي واجتماعي واسع داخل الجمهورية الإسلامية، ولو على المدى الطويل.
وقد تجلَّى هذا التوجه في استهداف منشآت ومؤسسات لا تقتصر على الطابع العسكري أو النووي، بل طالت كيانات سياسية مركزية مثل مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، إضافة إلى شخصيات قريبة من المرشد الأعلى. كما شملت الضربات البنية التحتية الاقتصادية الحيوية، بما فيها منشآت الطاقة، فيما يبدو أنه مسعى مُتعمَّد لتضخيم المعاناة الاقتصادية للشعب الإيراني.
وقبل ساعات من إعلان ترامب عن وقف هش لإطلاق النار، قصفت إسرائيل مباني مؤسسات أمنية وعسكرية من بينها الحرس الثوري وقوى الأمن الداخلي، بما يشي باستمرار الرهان على أن تؤدي العملية إلى ضرر دائم في قدرات النظام السياسي والأمني في إيران.
ورغم أن تصريحات رسمية أميركية سارعت إلى نفي أي نية لإسقاط النظام غداة القصف الأميركي للمنشآت النووية، فإن هذا النفي يمكن فهمه في سياق احتواء رد الفعل الإيراني، ولا يلغي في جوهره الطموحات المتجددة في تل أبيب لإحداث تغيير جذري داخل بنية الحكم، بصرف النظر عن وقف إطلاق النار الذي لم تتضح معالمه بعد. فإلى أي مدى يمكن أن تنجح هذه المساعي؟ وكيف تبدو مناعة النظام الإيراني في مواجهة هذا السيناريو؟
هل تكفي المظاهرات لإسقاط النظام؟
على مدى العقود الثلاثة الماضية، واجهت الجمهورية الإسلامية سلسلة متكررة من موجات الاحتجاج الشعبي، مثل احتجاجات الطلاب عام 1999، التي اندلعت إثر إغلاق صحيفة “سلام” الإصلاحية، وامتدت لتشمل الجامعات في طهران ومدن أخرى. ثم احتجاجات “الحركة الخضراء” عام 2009، التي تُعد من أبرز التحديات السياسية التي واجهها النظام بعد الثورة، إذ اندلعت عقب اتهامات واسعة بالتزوير في الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى فوز محمود أحمدي نجاد، ما أثار غضب مؤيدي المرشحين الإصلاحيين، مير حسين موسوي ومهدي كروبي.
وفي عامي 2017 و2018، اندلعت موجة جديدة من الاحتجاجات ذات طابع اقتصادي، انطلقت من مدن طرفية بسبب الغلاء والبطالة، لكنها سرعان ما اتسعت لتشمل شعارات تطالب بتغيير شامل، وتنتقد جميع أجنحة النظام، بما فيها المحافظون والإصلاحيون على حد سواء.
كانت هذه أول مرة تُرفع فيها شعارات مناهضة للمرشد مباشرة في مدن بعيدة عن المركز، مثل كرمانشاه وأصفهان. ثم جاءت احتجاجات الوقود في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي فجَّرها قرار مفاجئ برفع أسعار الوقود بنسبة 200%. وأخيرا، احتجاجات مَهسا أميني عامي 2022 و2023، التي انطلقت بعد وفاة الشابة الكردية أثناء احتجازها لدى أحد مراكز الشرطة.

لم تؤد أي من هذه الاحتجاجات إلى الإطاحة بالحكومة أو إلى انقسامات كبيرة في المؤسسة الأمنية الإيرانية، كما حدث في احتجاجات 1979 التي تحولت إلى ثورة شعبية عارمة. كما لم يشمل أي منها درجة التنوع والشمول الاجتماعي الواسعة التي شهدتها الثورة الإسلامية. فبحلول عام 1978، كان هناك تحالف استثنائي قد تشكَّل بين مختلف الجماعات العرقية والطبقية في إيران، ما ترك نظام الشاه دون قاعدة دعم كافية.
غير أن اتساع المظاهرات وحده لم يكن كافيا للإطاحة بالشاه، فقد كان أحد العوامل الحاسمة تفكّكَ جهازه الأمني، ورغم أن القوات المسلحة وجهاز السافاك، التي تلقت تدريبها على يد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كانت ممولة بسخاء ونجحت في تفكيك الحركات المعارضة قبل عام 1978، فإن السافاك كان أصغر حجما بكثير من الأجهزة الأمنية الحالية التابعة للنظام الإسلامي، إذ تراوحت تقديرات عدد أفراده بين 5000 و60 ألفا في ذروة نشاطه، مقارنة بما يصل إلى 150 ألف عنصر في الحرس الثوري اليوم.
ولعل الفارق الأهم ليس في العدد فحسب، بل في البنية التنظيمية. فأجهزة أمن الشاه، بخلاف نظيرتها الحالية، لم تُصمَّم بطريقة تُحصِّنها من الانقسامات الداخلية.
على سبيل المثال، كان التجنيد مفتوحا لجميع فئات المجتمع ولم يكُن مؤدلجا، مما جعلها أكثر عرضة للانقسام، وأقل صلابة عند مواجهة حركات جماهيرية واسعة. وقد كانت قادرة على قمع احتجاجات صغيرة وهامشية، لكنها حين واجهت انتفاضة تعكس الطيف السكاني الكامل، انشق عدد كبير من عناصرها وألقوا سلاحهم.
منذ اللحظة الأولى، أدرك آية الله الخميني والنظام الجديد أن الأجهزة الأمنية في البلاد تحتاج إلى إعادة هيكلة تضمن لها تماسكا أيديولوجيا، وتمنع تكرار سيناريو السقوط الذي أوصلهم إلى الحكم. ولهذا، أنشئ فوق الجيش والشرطة جهاز أمني موازٍ لترسيخ النظام الثوري، يعتمد على شبكة معقدة من الأفراد ترصد وتتابع أي محاولة لتحدي سلطة الدولة. وفي قلب هذا النظام الأمني تقف قوتان: حرس الثورة الإسلامية، و”الباسيج“.
ويبلغ عدد أفراد الحرس الثوري ما بين 100 إلى 150 ألف عنصر، وهم مرتبطون أيديولوجيا بالنظام، وقد سُمح للحرس عبر السنوات بتوسيع نفوذه السياسي والاقتصادي ودوره الخارجي، خاصة منذ عهد أحمدي نجاد، مما جعله قوة ذات مصلحة راسخة في بقاء النظام، أيديولوجيا وماديا أيضا.
أما “الباسيج” فهي قوة تطوعية يُقدَّر عدد أفرادها بنحو مليون عضو. وقد تأسست عام 1979، وتتميز بمرونة تنظيمية وارتباط أيديولوجي وثيق بالتيار المحافظ. وبالمقارنة مع أي قوة في عهد الشاه، تبدو الباسيج أكثر تجانسا من حيث الخلفية الديمغرافية، إذ تتكون غالبا من أبناء قلب إيران الجغرافي والاجتماعي، مما يمنحها تماسكا أعلى واستعدادا أكبر لحماية النظام ومواجهة أي تهديد له.
تندمج وحدات الباسيج في الحياة اليومية للبلدات والقرى التي تنتشر فيها، عبر مشاركتها في مشاريع البنية التحتية والخدمات العامة، مما يسهم في تعزيز شرعية النظام الاجتماعية.
كما تُمكّن هذه البنية التنظيمية وحدات الباسيج من أداء دورها باعتبارها أداة إنذار مبكر، ترصد مؤشرات الاضطراب في المناطق البعيدة عن المركز. وبينما اعتمد الشاه على جهاز أمني مركزي، فإن الباسيج تمنح النظام الحالي ذراعا لامركزية عالية المرونة، قادرة على كشف التهديدات والرد عليها بسرعة.
في احتجاجات عام 2022، لم يقتصر دور الباسيج على تفريق المتظاهرين، بل شاركت أيضا في إنتاج سردية مضادة عبر الإعلام المحلي، وخطب الجمعة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تديرها مكاتب الإعلام التعبوي.
العمق الاجتماعي والثقافي.. مجتمع لا ينقلب على نفسه
إلى جانب الرسوخ الأمني للنظام الإيراني، ثمة نسيج ثقافي وعقائدي متشعب يستند إليه، حيث تمازجت الثورة مع مفاهيم الهوية القومية والكرامة الإسلامية والعداء للغرب، لتشكل ما يمكن تسميته “بالإيمان السيادي”، وهو إيمان يُحاكي المفهوم الغربي للعقد الاجتماعي، لكن بصيغة دينية ومذهبية خاصة وفريدة.
لا تُختزل الدولة الإيرانية في كونها مؤسسة حكم، بل يُنظر إليها بوصفها ممثلا لهوية حضارية ومذهبية محفوفة بالتهديدات. وقد استثمر النظام، على مدى أكثر من أربعة عقود، في سردية تتجاوز الأشخاص والسياسات، لتؤسس قناعة مفادها أن أي تهديد للنظام إنما هو تهديد للكرامة الوطنية والإرث الشيعي في قلب الشرق الأوسط.
وتلك ليست مبالغة دعائية، بل واقع مُكرَّس في الإعلام والمناهج الدراسية والخطاب الديني، وحتى في التعبيرات الفنية. وقد كانت الحرب العراقية الإيرانية لحظة التأسيس الكبرى لهذا الوعي الجمعي. فالملايين الذين دُفعوا إلى الجبهات القتالية، وعاد بعضهم معاقين أو نقلوا إخوانهم في توابيت، شكَّلوا النواة الصلبة لسردية تعتبر أن الثورة لم تكن نتيجة مساومة سياسية، بل نُسِجَت بالدم، وأن الجمهورية الإسلامية قامت على “جهاد وجودي”.

إلى جانب التعبئة الأيديولوجية العميقة، أفرزت التحولات الاقتصادية الكبرى منذ الثمانينيات طبقة ترى ضروة من بقاء النظام، سواء من خلال صعودهم في البيروقراطية، أو أعمالهم التجارية والاقتصادية المرتبطة بالحكومة. وهذه الطبقة ليست بالضرورة مؤمنة أيديولوجيا بأفكار النظام، لكنها ترى في استمراره ضمانا لاستقرار مصالحها.
ولهذا، لا يمكن اختزال الحديث عن إسقاط النظام الإيراني في موازين القوى العسكرية أو في حجم الغضب الشعبي وحده، بل ينبغي فهمه ضمن هذا التشابك المعقّد بين النظام ومجتمعه، وطبيعة التماسك الداخلي في إيران، لا سيَّما في مواجهة التهديدات الخارجية.
حتى الآن، اجتاز النظام اختبارات متعددة للقدرة على البقاء، إلا أن هذا لا يعني أن التآكل غير موجود. فكل موجة احتجاج مرَّت بها إيران أرهقت الأجهزة بلا شك، وكشفت تصدُّعات في بنية النخبة. ومع ذلك، فإن بناء نظام بهذا القدر من التشابك والسيطرة الداخلية يجعل فكرة الانهيار السريع أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع السياسي.
الأنظمة لا تسقط من السماء
في عام 1991، وبعد نهاية حرب الخليج الأولى، وقف الرئيس الأميركي جورج بوش الأب يحُث العراقيين على الثورة على صدام حسين، مُتوهّما أن نظاما دكتاتوريا أنهكته الحرب سيسقط بسرعة تحت ضغط الشارع. لكنّ ما حدث كان العكس تماما، فقد قُمعت الانتفاضات في الجنوب والشمال بمجازر مُروّعة، خاصة ضد الشيعة والأكراد، في حين بقي صدام مُتربّعا على عرش السلطة لعقد إضافي، حتى عادت القوات الأميركية بنفسها لغزو العراق برا وجوا عام 2003 لإسقاطه.
وقد بات من المُسلَّم به وفق تجارب العقود الماضية، أن الحملات الجوية نادرا ما تؤدي إلى إسقاط الأنظمة بمفردها. صحيح أن بعض الحملات ساهمت في تقويض حكومات، مثل قصف حلف شمال الأطلسي ليوغسلافيا عام 1999 أثناء حرب كوسوفو، وفرض منطقة حظر جوي على ليبيا عام 2011، إلا أن العامل الحاسم في الحالتين كان الحراك الداخلي والقوى الفاعلة على الأرض، لا الضربات الجوية وحدها.
ويستشهد البعض باستسلام اليابان عام 1945 بعد إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي، بوصفه حالة وحيدة لحملة جوية أسقطت النظام. لكن حتى هذا المثال يُعد إشكاليا، لأن القصف النووي لم يأت من فراغ، بل كان تتويجا لحرب شاملة وطويلة بين الولايات المتحدة واليابان، كما أوضح تحليل أصدره مركز ستراتفور.
وحين نجحت التدخلات العسكرية في إسقاط الأنظمة، فإنها نادرا ما أثمرت أنظمةً جديدة تنسجم مع تطلعات القوى الخارجية. فعندما أطاحت الولايات المتحدة بنظام صدام حسين عام 2003، وجدت نفسها أمام فراغ سياسي وأمني سرعان ما امتلأ بقوى ومليشيات وصراعات أهلية، بينما تمدد النفوذ الإيراني في قلب بغداد، على خلاف الحسابات الأميركية.
وعندما تدخلت واشنطن ضد نظام طالبان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، أنفقت مليارات الدولارات، ودرَّبت جيشا محليا، وأقامت مؤسسات حكم، ثم عادت طالبان بعد 20 عاما، أكثر تنظيما وانتشارا. تكرَّر السيناريو ذاته في ليبيا، حين تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي عام 2011، وانهار النظام فعلا، لكن لم تنجح أي قوة خارجية في إعادة تركيب الدولة الليبية على نحو يحقق المصالح الغربية.
واليوم، يبدو أن بعض الدوائر في واشنطن وتل أبيب تفكر بالمنطق نفسه تجاه إيران، متصورة أن ضربات عسكرية مُحكَمة أو ضغوطا شديدة قد تفتح الطريق لاحقا أمام انهيار النظام. غير أن التجارب السابقة تشير بوضوح إلى أن إسقاط النظام لا يعني بالضرورة القدرة على هندسة نظام بديل يخدم أهداف الخارج. ومع أن احتمال الغزو يبدو بعيدا جدا، خاصة في حال استقرار وقف إطلاق النار، فقد تُفاجأ أي قوة غازية لطهران بموجات مقاومة لا سقف لها، ولا أفق لنهايتها، بشكل تعجز أمامه قدرة واشنطن أو غيرها على الاحتمال أو التحكم.
ثغرات رغم التماسك
لا تعني نقاط القوة السابق شرحها أن النظام الإيراني بعيدا عن التهديد، أو أنه لا توجد أوجُه هشاشة في بنائه الذي أشرف على نهاية عقده الخامس. فمنذ منتصف العقد الماضي، بدت الانقسامات بين التيارات المحافظة والبراغماتية داخل بنية النظام أوضح من أي وقت مضى.
وقد ساهمت الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، الناتجة عن السياسات الخارجية الإيرانية المناهضة للنفوذ الأميركي والإسرائيلي ودعم حركات المقاومة، في مفاقمة الأعباء على الطبقات الوسطى والفقيرة، مع انهيار العملة المحلية، وتفاقم الفقر، وتزايد نسب التضخم، وغيرها من المؤشرات السلبية.
لا يضغط هذا الوضع على المجتمع فحسب، بل يترك بصمته كذلك على وعي عدد من نخب النظام، التي بات بعض أفرادها يتبنون مقاربة تقوم على أولوية التوصل إلى اتفاق مع القوى الغربية، ولو تطلَّب ذلك التراجع عن بعض الشعارات الكبرى للثورة، مقابل إعادة دمج إيران داخل النظام الاقتصادي العالمي.
وذلك لأن إيران، خلافا لدول مثل كوريا الشمالية، لم يُبنَ اقتصادها على فرضية الانفصال التام عن السوق العالمية، بل تحتاج الجمهورية الإسلامية باستمرار إلى تصدير السلع واستيراد المواد الحيوية، كما تعتمد على استمرار ارتباطها بالمؤسسات النقدية والمالية الدولية، وبأنظمة التحويل البنكي العالمية.
ومن ثمَّ، بدأت تتبلور تدريجيا منذ أوائل التسعينيات رؤيتان داخل النظام الإيراني، يروق للبعض أن يسمي إحداهما “المحافِظة” أو “المتشددة”، والثانية “الإصلاحية”. ويتبنى المحافظون نهجا عقائديا يقوم على مقاومة الغرب المستمرة بوصفه مبدأ تأسيسيا، ويرفضون أي تنازل باعتباره تفريطا في قيم الثورة، بما فيها الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي لا يزالون ينظرون إليه على أنه خطيئة سياسية ارتكبتها القوى المتساهلة داخل النظام أثناء رئاسة حسن روحاني، ويُحمِّلون هذا الاتفاق مسؤولية تجرؤ القوى الغربية على إيران، واعتقادها بإمكانية انتزاع تنازلات إضافية تحت الضغط.
أما الإصلاحيون فيرون أن الانفتاح على الغرب، حتى لو تطلَّب تقليص نفوذ إيران الخارجي أو التخلي عن طموحاتها النووية، بات ضرورة ملحة لإنقاذ المشروع الإيراني، إذ يعتقد هؤلاء أن البلاد تجاوزت في تمدُّدها الخارجي وفي صدامها مع القوى الغربية حدود قدراتها الجيوسياسية والاقتصادية والبشرية. ورغم أن التنافس بين التيارين لا يزال مضبوطا داخل أطر النظام السياسية والأمنية، بما يمنع حدوث انشقاقات أو انفجارات حتى الآن، فإن هذه التوازنات بطبيعتها تظل هشَّة وقابلة للانهيار مستقبلا، إذا ما تراكمت الضغوط أو استجدت متغيرات كبرى.
ولكن من جهة أخرى، لم تبرز حتى اليوم أي معارضة سياسية قادرة على تمثيل الشعب الإيراني، أو تقديم بديل حقيقي للنظام. ويُعزَى ذلك جزئيا إلى التماسك الأيديولوجي للنظام، كما يُعزى جزئيا إلى طبيعة الدولة الإيرانية ذاتها، التي لا تتيح مساحة لنمو مؤسسات سياسية معارضة من داخل النظام أو على هامشه، كما حدث في تجارب أوروبا الشرقية قبيل انهيار أنظمتها.
والخلاصة، أن إيران -خلافا لما يتوقعه البعض- لا تقف على حافة الهاوية، ولا تنتظر رصاصة الرحمة من السماء، فهي دولة ذات بنية راسخة، تتشابك فيها الأيديولوجيا مع مؤسسات الدولة، والهوية التاريخية مع شبكة المصالح، والجغرافيا مع ذاكرة جمعية ترى في كل تدخل خارجي امتدادا لقرون من الانتهاك والسيطرة. أما الاحتمالية الحقيقية لتغيُّر النظام، فهي مرتبطة بعوامل داخلية في المقام الأول.
ومن جهة أخرى، فإن نتائج هذه الجولة من المواجهة العسكرية قد تُفاقم من حدة الخلاف بين طرفي النظام الإيراني، وقد تفتح الباب أمام موجة من التلاوم الداخلي حول نتائج السياسة الخارجية المتصلبة لطهران، وهل بإمكانها التفاهم حول القدرات النووية بدلا من تعرضها للقصف دون قدرة على حمايتها.
ورغم أن النظام تغلَّب على موجات الاحتجاجات تلك منذ عام 1979، فإن تزايد وتيرتها وشدّتها في العقد الأخير يكشف عن تحديات في الشرعية السياسية والاجتماعية للسلطة، وهو وهو ما يظهر بجلاء في تراجع المشاركة في الانتخابات الرئاسية عامي 2021 و2024.
لا يترنَّح النظام الإسلامي في إيران بالضرورة، لكن الحاجة إلى إصلاحه وتجديده تُلح على الجيل الثاني من رجال الثورة كي يتمكنوا من حماية النظام، وهو إصلاح يُرجَّح أن يأتي من تَدافع الدولة والشعب ومكوّناتهما في الداخل، لا من المؤامرات عليهما من الخارج.