عائشة حمد: الحرب في السودان تُخاض على أجساد النساء ولا سلام دون عدالة جندرية ومحاسبة شاملة
في مقابلة مطولة أجرتها الباحثة السودانية ومستشارة رئيس الوزراء الأسبق لشؤون النوع الاجتماعي، عائشة حمد، عبر برنامج “بصراحة” على راديو دبنقا، قدمت قراءة تحليلية شاملة لتداعيات الحرب في السودان، مركزة على الأبعاد الجندرية والإنسانية والسياسية، ومشددة على أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون عدالة انتقالية تضع النساء في مراكز القرار وتعترف بمعاناتهن، وسط تصاعد غير مسبوق في معدلات العنف الجنسي والانتهاكات بحق المدنيين.
عنف ممنهج
أوضحت عائشة حمد أن الحرب الجارية في السودان تُخاض على أجساد النساء، مشيرة إلى أن معدلات العنف الجنسي ارتفعت بنسبة 288% خلال عام واحد فقط، وأن نحو 12 مليون شخص في السودان باتوا مهددين بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. وأكدت أن السلام المطلوب لا يمكن أن يكون شكليًا، بل يجب أن يبدأ من تصميم العملية السياسية وصياغة القضايا بمشاركة نسوية لا تقل عن 40%، مع إدماج قضايا النساء بلغة حساسة للنوع الاجتماعي. وشددت على أن التمثيل النسوي في مراكز صنع القرار داخل الأحزاب والقوى السياسية لا يزال محدودًا، مطالبة بمحاسبة مرتكبي الفظائع والانتهاكات التي وقعت في الفاشر وبارا، وتوفير آليات فعالة لحماية المدنيين.
جذور الصراع
في مستهل حديثها، أشارت عائشة إلى أن الحرب في السودان ليست مجرد صراع على السلطة بين قوتين عسكريتين، بل هي نتاج تراكمات بنيوية معقدة تتعلق بسوء إدارة الدولة والتوزيع غير العادل للسلطة والثروة. وأكدت أن غياب المشروع الوطني الجامع الذي يعبر عن تطلعات كل مكونات الشعب السوداني كان من الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب واستمرارها. وأضافت أن فشل النخب السياسية والعسكرية في بناء دولة المواطنة القائمة على العدالة والمساواة أدى إلى انقسامات جهوية وقبلية عميقة، وتحولت الولاءات من الدولة إلى المجموعات والعشائر، معتبرة أن هذه الولاءات القبلية ليست سببًا أصيلًا في الحرب، بل نتيجة طبيعية لغياب الدولة الوطنية الحاضنة للجميع.
اقتصاد الحرب
تحدثت عائشة عن دور الموارد والثروات في تأجيج الصراع، مشيرة إلى أن القوى المتحاربة تتسابق للسيطرة على مناطق التعدين، خاصة الذهب والمعادن، وتستخدم عائداتها في شراء السلاح وتمويل العمليات العسكرية، مما جعل الاقتصاد جزءًا من ماكينة الحرب. وأكدت أن تدخل العوامل الإقليمية والدولية عمّق الأزمة، حيث رأت بعض الأطراف الإقليمية في الحرب فرصة لتوسيع نفوذها وحماية مصالحها الاستراتيجية، فقدموا دعمًا سياسيًا ولوجستيًا وعسكريًا لأطراف النزاع، ما حول السودان إلى ساحة صراع بالوكالة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية، خصوصًا بسبب موقعه الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر.
استحالة الحسم
أشارت عائشة إلى أن تعقيدات الحرب في السودان تؤكد استحالة الحل العسكري، موضحة أن الأسباب الجذرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى اندلاعها لا يمكن تجاوزها بالقوة. وشددت على ضرورة التعامل مع هذه الأسباب بجدية إذا كان الهدف هو الوصول إلى حلول حقيقية لوقف الحرب، مؤكدة أن أي محاولة لفرض الحسم العسكري لن تؤدي إلا إلى المزيد من الدماء.
انهيار إنساني
وصفت عائشة الوضع الإنساني في السودان بالانهيار الكامل، مشيرة إلى أن المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، يتعرضون لأبشع أنواع الانتهاكات من قتل جماعي واغتصاب ونزوح قسري، في ظل غياب شبه تام للخدمات الصحية. وأكدت أن الأمم المتحدة صنفت الوضع الإنساني في السودان كأسوأ أزمة من حيث عدد النازحين، وغالبية هؤلاء من النساء والأطفال. وأضافت أن النساء في مناطق النزوح يتعرضن لمستويات غير مسبوقة من العنف الجنسي، وأن تدمير المستشفيات وتعطل خدمات الصحة الإنجابية والنفسية أدى إلى عودة الكثير من النساء إلى أساليب الولادة التقليدية، وسط غياب الرعاية الصحية الحديثة.
توثيق محدود
أشارت عائشة إلى أن تقرير بعثة تقصي الحقائق في السودان أظهر ارتفاعًا حادًا في حالات العنف الجنسي بنسبة 288% بين ديسمبر 2023 و2024، قبل الأحداث الأخيرة في الفاشر وبارا، مع احتمال أن تكون الأعداد الفعلية أكبر بكثير. وأوضحت أن التوثيق لا يشمل سوى 20% من الحالات بسبب الوصمة الاجتماعية والخوف وانعدام الأمان، ما يجعل الصورة الحقيقية أكثر قتامة.
أدوار نسوية
سلطت عائشة الضوء على الدور الحيوي الذي لعبته النساء منذ اندلاع الحرب، مشيرة إلى أنهن شاركن في حملات إيقاف الصراع، وتنظيم إيواء المتضررين، وتوفير الغذاء، وإدارة المبادرات المجتمعية والمناصرة والتوثيق محليًا ودوليًا. وأكدت أن معظم العاملين في لجان الطوارئ والمطابخ والمبادرات المجتمعية هن من النساء، ما يعكس حجم المسؤولية التي تحملنها في ظل غياب الدولة.
تمثيل ناقص
انتقدت عائشة التمثيل النسوي في عمليات السلام، مؤكدة أن النساء يعانين من الإقصاء رغم تحسن مشاركتهن في سلام دارفور. وشددت على ضرورة وجود تمثيل حقيقي يبدأ من مرحلة تصميم المباحثات والقضايا، لضمان إدماج قضايا النساء بلغة جندرية حساسة، وليس مجرد تمثيل شكلي بنسبة 25%، بل على الأقل 40%. وأكدت أن أي سلام لا يستوعب قضايا كل المجموعات سيكون ناقصًا وهشًا.
تقييم الرباعية
وحول مبادرة الرباعية الدولية لسلام السودان بقيادة الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، رأت عائشة أن المبادرة تواجه تحديات كبيرة، أبرزها تعنت الجيش وغياب مشاركة المدنيين والمجموعات النسوية. وأكدت أن النساء بحاجة إلى تجهيز أنفسهن بخطط واضحة للمشاركة في العملية السياسية، من العون الإنساني إلى الحوار السياسي، لضمان تمثيل فعّال في كل مراحل العملية.
عدالة انتقالية
شددت عائشة على ضرورة منح النساء والمجتمع المدني مساحة لرؤية واضحة في مسار السلام، وعدم فرض حلول جاهزة عليهن. وأكدت أن إنشاء مسار سياسي شامل يضم النساء والشباب والمجتمع المدني أمر ضروري لضمان شمولية العملية. وأضافت أن السلام الحقيقي لا يتحقق باتفاقيات شكلية، بل يحتاج إلى عدالة انتقالية تضع النساء في مراكز القرار وتعترف بمعاناتهن، لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع.
واقع مؤلم
حذرت عائشة من أن التعوّد على العنف والاغتصاب أصبح من أخطر نتائج الحرب، مشيرة إلى أن المجتمع بدأ يتعايش مع هذه الأوضاع، ما أدى إلى تدهور كبير في حقوق النساء. وأكدت أن هناك فتيات أقدمن على الانتحار بسبب غياب الدعم النفسي، وأن هذه الحالات تتكرر يوميًا. وأضافت أن المجتمع أصبح منشغلًا بتأمين لقمة العيش، ما جعل قضايا النساء هامشية وسط صراع البقاء.
خطاب الكراهية
أشارت عائشة إلى أن خطاب الكراهية أصبح من أخطر التداعيات الاجتماعية، حيث استُهدفت النساء بهذا الخطاب، وتعرضن للاختطاف والوصم الإعلامي. وأكدت أن الإعلام لعب دورًا سلبيًا في ترسيخ هذا الخطاب، من خلال تصوير الناشطات على أنهن ينتمين إلى إثنيات معينة أو متعاونات مع أطراف محددة. وشددت على ضرورة رفع الوعي وبناء السلام المحلي، واحترام حقوق الإنسان دون تمييز على أساس النوع أو القبيلة أو الإثنية.
تغييب سياسي
في تقييمها لدور النساء داخل الأحزاب والقوى السياسية، أوضحت عائشة أن وجود النساء داخل هذه الكيانات لا يزال محدودًا في المناصب العليا ومراكز اتخاذ القرار. وطالبت بتمثيل عادل للنساء بنسبة لا تقل عن 40% في الهياكل القيادية والعمليات السياسية، لضمان مشاركة حقيقية في صنع القرار.
انتهاكات موثقة
وحول الانتهاكات التي وقعت في الفاشر وبارا، أكدت عائشة أن منصات نسوية، بما في ذلك “نساء سلام السودان”، أصدرت بيانات تندد بهذه الانتهاكات وطالبت بمساءلة المسؤولين عنها. ودعت إلى توفير آليات فعالة لحماية المدنيين، وفتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات، ودعم المجموعات المحلية العاملة في المناطق المتضررة.
رفض الحسم العسكري
أكدت عائشة أن السلام لا يمكن أن يتحقق عبر الحل العسكري، وأن أي محاولة لفرض الحسم بالقوة ستؤدي إلى المزيد من الدماء. وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية، مشددة على أن الحوار الشامل هو السبيل الوحيد لمعالجة القضايا الأساسية.
جبهة مدنية
اختتمت عائشة حمد حديثها بالتأكيد على أن الحل السياسي في السودان لا يمكن أن يتحقق دون تشكيل جبهة مدنية واسعة النطاق، تضم جميع المبادرات والمجموعات النسوية والمدنية المطالبة بوقف الحرب. وشددت على أن السودان يفقد يومًا بعد يوم مقومات بقائه كدولة، ما يستدعي تحركًا جادًا ومسؤولًا من كافة مكونات المجتمع، بما في ذلك النساء والشباب والجهات الفاعلة في المجتمع المدني. وأكدت أن الوقت قد حان للعمل المشترك من أجل وقف التصعيد العسكري، والحفاظ على ما تبقى من الوطن، وتأسيس عملية سياسية شاملة تعالج جذور الأزمة وتضمن مشاركة حقيقية لجميع الفئات.
هذا التقرير يعكس رؤية نقدية وتحليلية معمقة لمآلات الحرب في السودان من منظور النوع الاجتماعي، ويضع النساء في قلب المعادلة السياسية والإنسانية، مؤكدًا أن أي مسار للسلام لا يضع قضايا النساء في صلبه، سيظل ناقصًا وعرضة للانهيار.
