
في إطار استعداداتها لمواجهة سيناريوهات مائية غير متوقعة، شرعت الحكومة المصرية في تنفيذ أعمال تطوير شاملة لقناة ومفيض توشكى، بهدف تعزيز القدرة التصريفية لمياه الأمطار ورفع كفاءة منظومة التشغيل المائي. وتأتي هذه الخطوة ضمن خطة استراتيجية أوسع لتأمين البنية التحتية المائية في البلاد، على خلفية استمرار الخلافات مع إثيوبيا بشأن إدارة وتشغيل سد النهضة. ووفق بيان صادر عن وزارة الموارد المائية والري، فإن المشروع يهدف إلى تحسين أداء المفيض وتحديث آليات تشغيله، بما يضمن الحفاظ على أمان السد العالي واستقرار تدفق المياه في الظروف الطارئة.
أشارت وزارة الري إلى أن التطوير الجاري في مفيض توشكى يأتي استجابة مباشرة لما وصفته بـ”التصرفات غير المنضبطة” من الجانب الإثيوبي في إدارة سد النهضة، والتي حذرت منها القاهرة مرارًا. وأوضحت أن الأيام الماضية شهدت تدفقات مائية مفاجئة من أعالي النيل، نتيجة قرارات تشغيلية أحادية من إثيوبيا، ما أدى إلى تصريف كميات كبيرة من المياه نحو مصر والسودان دون تنسيق مسبق. وأكدت الوزارة أن هذه التصرفات تسببت في أضرار ملموسة لدولتي المصب، وأثبتت صحة المخاوف التي عبّرت عنها مصر سابقًا بشأن إدارة السد.
في سياق متصل، شهدت عدة قرى مصرية، لا سيما في محافظتي البحيرة والمنوفية، ارتفاعًا غير مسبوق في منسوب مياه نهر النيل مطلع الشهر الجاري، ما أدى إلى غمر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ومنازل تقع ضمن نطاق أراضي “طرح النهر”. وتُعرف هذه الأراضي بانخفاضها الطبيعي داخل حرم النهر، ما يجعلها عرضة للغمر عند زيادة التصرفات المائية. هذا الارتفاع المفاجئ في المياه يعكس تأثيرات مباشرة للتدفقات غير المنضبطة، ويبرز الحاجة إلى تعزيز قدرة التصريف في المفيضات والمجاري المائية الرئيسية.
بحسب البيانات الرسمية، يُعد مفيض توشكى أحد المكونات الحيوية في منظومة إدارة المياه خلف السد العالي، حيث يعمل على تصريف المياه الزائدة عن قدرة بحيرة ناصر الاستيعابية. ويتم فتح المفيض عبر قناة تربط بين البحيرة ومنخفض توشكى مرورًا بخور توشكى، وهو مشروع بدأ تنفيذه في منتصف تسعينات القرن الماضي. ويُستخدم هذا النظام في الحالات الطارئة لضمان عدم تجاوز المناسيب الهيدروليكية الآمنة، ما يساهم في حماية البنية التحتية المائية وتفادي أي ضغط غير محسوب على السد العالي .
ردًا على الانتقادات التي طالت أداء المنظومة المائية في ظل تدفقات النيل الأخيرة، أكدت وزارة الري أن قرارات التشغيل تُدار من خلال لجنة “إيراد النهر”، التي تضم نخبة من الخبراء في مجالات إدارة الموارد المائية، وتشغيل السدود، وتحليل الصور الفضائية، والرصد المناخي. وأوضحت الوزارة أن اللجنة تعتمد على تقنيات الرصد اللحظي والتنبؤات الهيدرولوجية الحديثة لاتخاذ قرارات دقيقة تضمن الاستخدام الأمثل للمياه، والتعامل الفوري مع أي تغيرات مفاجئة في تدفقات النهر أو الواردات من أعاليه.
أكدت وزارة الري أن الإدارة الدقيقة للمنظومة المائية في مصر تهدف إلى تحقيق توازن بين الاستخدام الأمثل للمياه وتلبية الاحتياجات المتنوعة، سواء عبر المجرى الرئيسي للنهر أو من خلال مفيض توشكى في الحالات الاضطرارية. وأشارت إلى أن تشغيل المفيض يتم فقط عند وصول المناسيب إلى الحدود المثلى، بما يضمن حماية الموارد المائية من الهدر، ويعزز قدرة الدولة على مواجهة أي تصرفات عشوائية قد تؤثر على استقرار النظام المائي الوطني .
في المقابل، تواصل إثيوبيا تنفيذ مشروع سد النهضة الذي دُشّن رسميًا في 9 سبتمبر الماضي، وسط اعتراضات متكررة من مصر والسودان تطالب باتفاق قانوني ملزم ينظم تشغيل السد ويضمن عدم الإضرار بمصالح دولتي المصب. وكانت القاهرة قد أعلنت في ديسمبر 2023 فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات، وإغلاق المسار التفاوضي بعد أكثر من 13 عامًا من المحادثات المتقطعة، ما زاد من تعقيد المشهد الإقليمي وأعاد ملف السد إلى واجهة التوترات السياسية في حوض النيل .
من جانبه، اعتبر الدكتور أحمد فوزي دياب، أستاذ الموارد المائية بالمركز القومي للبحوث، أن أعمال التطوير الجارية في مفيض توشكى تمثل أحد أوجه الحماية الاستباقية من التدفقات غير المسؤولة، كما تندرج ضمن استعدادات مصر لاحتمالية انهيار جزئي أو كلي في سد النهضة، وما قد يترتب عليه من تدفق كميات ضخمة من المياه. وأوضح دياب أن خطة التطوير تشمل تعميق مجرى المفيض، وتركيب بوابات تنظيمية تُستخدم عند الحاجة، مشيرًا إلى أن هذه الإجراءات تعكس خبرة مصرية راسخة في إدارة الأزمات المائية والاستعداد الدائم لأسوأ السيناريوهات.