المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان، توماس باراك، لم يقدّم في بيروت سوى رسالة ضغط مقنّعة: واشنطن لا تطلب من لبنان التوقيع بلا شروط، لكنها تشير إلى أن المنطقة تشهد تحركات متسارعة، وأن التباطؤ قد يضع بيروت خارج مسار التفاهمات الجارية.
وتكشف وتيرة التحركات الأميركية في المثلث: إسرائيل – سوريا – لبنان، عن مسعى لإعادة ترتيب الأجواء السياسية، عبر محاولة استبدال الاشتباك المفتوح بصيغة من الاستقرار المؤقت القابل للتوظيف، يمتد من الخليج وصولاً إلى شرق المتوسط.
في هذا السياق، يتقدم اسم دونالد ترامب كرجل أعمال ببذلة سياسية يهوى الصفقات الكبيرة، ويُحكى عن زيارة يُراد لها أن تُتوَج بها ورشة دبلوماسية وأمنية بدأت بالفعل: موفدون يترددون بين العواصم، رسائل متبادلة، ومواعيد اختبار متقاربة.
في دمشق وتل أبيب، لم يعد مستغربا الكلام عن قنوات أمنية- سياسية مفتوحة، ولو بملامح أولية. اجتماعات باريس بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، بحضور باراك، ليست تفصيلا بروتوكوليا؛ هي مؤشر على أن الوساطة الأميركية (وبهوامش فرنسية وتركية)، تدفع باتجاه ترتيبات أمنية سريعة تُخفض منسوب المخاطر وتُراكم أعرافا تُمهد لاتفاقات سياسية لاحقة، مهما وُضعت حولها علامات استفهام.
وفي الوقت نفسه، يجري تشجيع بيروت على إعادة تبريد ملفاتِها مع دمشق: السجناءِ، الحدود، النازحين، المفقودين، وحتى ودائع السوريين في المصارف اللبنانية. للمرة الأولى، تبدو واشنطن كأنها تضع لبنان وسوريا تحت مظلة دفع واحدة نحو تطبيع وظيفي يرفع الكلف عن الجميع، ويُنهي ذريعة إدارة الأزمات بالحد الأدنى.
على الضفة اللبنانية- الإسرائيلية، تنكشف معادلة أكثر حساسية: المطلوب، وفق القراءة الأميركية، تحقيق اختراق داخلي يُترجم قرار الحكومة اللبنانية بحصر السلاح بيد الدولة بخطة تنفيذية يقودها الجيش، على أن يُلاقي ذلك ترتيبا أمنيا على الحدود وتخفيفا إسرائيليا مدروسا للوجود العسكري.
ورئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، خرج من صمته ليقدم صيغة حذرة: خطوات لبنانية ملموسة أولا، تُقابلها خطوات إسرائيلية تدريجية، ليست وعدا بانسحاب شامل.
منطق التبادلية المشروطة هذا يضع الكرة في الملعب اللبناني ظاهريا، لكنه في العمق يعيد طرح السؤال الأزلي: أيهما يسبق الآخر، تجفيف البيئة العسكرية للحزب شمال الليطاني أم خفض البصمة الإسرائيلية في الجنوب؟ ومن يضمن ألا تنقلب التبادلية إلى حلقة مفرغة إذا قرر طرف ما التشدد أو المماطلة؟
يعرف المسؤولون في بيروت أن المسألة ليست شعارا سياديا فحسب. إنفاذ قرار الحكومة يعني الدخول في تفاصيل ثقيلة: أين يبدأ نزع السلاح وكيف يتدرج؟ ما هي آليات الجرد والتسليم والتخزين والإشراف؟ ما موقع الدفاع الإستراتيجي الذي يطرحه الحزب في المعادلة؟ وهل تُفتح نافذة لإدماج وظيفي تحت سقف الدولة، أم يُصار إلى مقاربة نزع ونقل وتحييد؟
الجيش اللبناني، الذي طُلب منه إعداد خطة، يدرك أن النجاح لا يقاس ببلاغ عسكري، بل بمنظومة ضوابط ميدانية وقانونية وسياسية ومالية، وبقدرة على ملء الفراغ الأمني على طول الحدود، وبشبكة دعم دولي تستمر سنوات لا أشهرا. هنا تبرز أهمية تجديد ولاية اليونيفيل وتثبيت تمويل الجيش.
وزيارة السيناتورين: ليندسي غراهام، وجين شاهين إلى بيروت ليست نزهة برلمانية؛ هي رسالة قياس للجدية اللبنانية وحسابات الدعم الأميركي، وللمدى الذي يمكن أن يذهب إليه الكونغرس في ربط التمويل بالنتائج.
في موازاة ذلك، لا بد من تثبيت موقف حزب الله من أصل المسار، لأنه عنصر حاسم في إمكان تقدم الخطة أو تعثرها. الحزب يصر على أن أي نقاش لسلاحه لا يمكن عزله عن البيئة التهديدية القائمة. يرتكز خطابه إلى ثلاث حجج رئيسية:
- أولا، استمرار الاحتلال والاعتداءات في الجنوب، من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى الخروقات الجوية والبحرية اليومية، ما يجعله يعتبر أن الردع لم يسقط مبرراته بعد.
- ثانيا، الريبة من مشاريع إسرائيلية لإقامة شريط أمني بصيغ اقتصادية أو عسكرية مموهة، يرى فيها محاولة لإعادة إنتاج وقائع احتلالية بوجه جديد.
- وثالثا، المستجد السوري: إذ يلوح الحزب بخطر مصدره الإدارة السورية الجديدة، وما قد يرافق انتقال السلطة من تغييرات في هندسة الأمن على الحدود الشرقية والشمالية، من إعادة تموضع الأجهزة إلى فراغات قد تتسلل منها مجموعات متطرفة أو خلايا عابرة للحدود.
هنا يتذرع حزب الله بأن تسليم السلاح في ظل هذا المشهد هو تفكيك لأداة الردع قبل اكتمال ضمانات الدولة، وأن الحوار والإستراتيجية الدفاعية هما الإطار الوحيد المقبول زمنا وترتيبا ومضمونا.
عمليا، هو يلمح إلى استعداد نظري للنقاش في وظائف السلاح ومراتبه وتوقيتاته، لكنه يربطه بسلة شروط: جدول متدرج، ضمانات أممية ملزمة، توازٍ واضح بين أي خطوة لبنانية وتراجع إسرائيلي موثق، وترتيبات ضابطة على الحدود مع سوريا تكبح المخاطر قبل وقوعها.
والداخل اللبناني يعيش تبعا لذلك اختبارا مزدوجا: اختبار الجدوى واختبار التوقيت. حركة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) بين التصعيد والتريث تعكس نقاشا حقيقيا في حسابات الشارع ورسائل الضغط وحدودها.
تأجيل تظاهرة كانت مقررة لا يعني تبدلا في الموقف من أصل القرار الحكومي؛ هو على الأرجح إعادة ضبط لإيقاع التحرك على مواعيد جلسة الحكومة وخطة الجيش، وتثبيت لمعادلة لطالما كررها الحزب: لا تسليم خارج حوار وإستراتيجية دفاعية.
في الجانب الآخر، تبدو بعبدا في وضعية من يريد التقاط أنفاس الدولة بين لوازم السيادة ومتطلبات الواقعية.
وبدا أن رئيس الجمهورية، العماد جوزيف عون، يقول لكل من يلتقيه من المسؤولين إنه لا يوزع وعودا مجانية، وإنه يستمع لما في جعبة باراك من تل أبيب ودمشق، ويضغط لتأمين مظلة دولية لليونيفيل، ويحصن موارد الجيش، ويبحث عن لغة مشتركة مع حزب الله، من دون أوهام حول سرعة الترجمة.
والأميركيون حددوا رزنامة طموحة: نهاية العام سقف لكل شيء تقريبا؛ خفض التوتر في غزة وفتح مسار سياسي للفلسطينيين، تبريد الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، ترتيب ملفات دمشق- بيروت، ودفع مسار سلاح حزب الله إلى نقطة اللاعودة.
وهذه السلة تفترض قبولا إسرائيليا عمليا بمبادئ كانت يوما أسس مبادرة بيروت للسلام، أو على الأقل إشارات تُطمئن العرب إلى أن الأمن مقابل الأمن لن يُدفن من جديد تحت ركام الشعارات القصوى. لكن الشكوك كبيرة.
والسؤال الأبرز: من يضمن ألا تتبدل حسابات تل أبيب مع أي ارتجاج داخلي؟ ومن يضمن ألا يتجه الحزب، تحت ضغط الوقت وبحججه المذكورة، إلى تصعيد مضاد يعيد خلط الأوراق، من الشارع إلى الجبهة إلى السياسة؟
ومع ذلك، ليس أمام بيروت ترف تحويل القرار الحكومي إلى ورقة للبازار الداخلي. لأن أي تردد سيحول الخطة إلى عنوان سجالي يزيد عزلة لبنان ويُضعف موقعه على طاولة الترتيبات المقبلة. وأي بطء في التنفيذ سيفتح الباب لفراغ أمني لا يملؤه سوى عالم الاقتصاد الموازي على الحدود.
والخيار الرشيد يمر عبر ثلاثة مسارات متزامنة:
- أولا، خطة أمنية متدرجة وقابلة للقياس، تُسندها وحدات منتشرة، وقدرة لوجيستية، وتمويل مستدام للجيش والقوى الأمنية، وتُستكمل بضمانات أممية تُحاصر الثغرات.
- ثانيا، مسار سياسي داخلي يقلل كلفة المواجهة الصفرية، عبر حوار جاد لا يشتري الوقت، بل يرسم نهايات واضحة لدور السلاح خارج الدولة، ويقدم مخارج تحفظ ماء وجه الجميع، مع أخذ هواجس الحزب المعلنة-الاحتلال، الشريط الأمني، والحد الشرقي بعد الإدارة السورية الجديدة-في الاعتبار، من دون تحويلها إلى ذريعة لتعطيل مفتوح.
- ثالثا، تفاوض عنيد على التبادلية مع إسرائيل، يرفض ابتزاز الخطوة بلا مقابل، ويدفع إلى صيغة تتزامن فيها إجراءات ضبط الحدود شمال الليطاني مع خفض ملموس للوجود الإسرائيلي جنوب الخط الأزرق، تحت رقابة دولية لا لبس فيها.
أما على الخط السوري، فالتبريد مطلوب من دون أوهام. دمشق ستفاوض بأوراقها: ملف السجناء، والتنسيق الأمني، والاقتصاد العابر للحدود، وملف اللجوء. ولبنان عليه أن يذهب بوحدة ملفاته، وبخطاب سيادي هادئ لا يهول ولا يستجدي.
ضبط الحدود ومكافحة التهريب ليسا فقط خدمة لقرار دولي؛ بل استعادة لمالية الدولة وكرامة مناطق أرهقها اقتصاد الظل. في هذا الملف كما في غيره، لا تُقاس المكاسب بالشعارات، بل بالنتائج اليومية: دورية إضافية هنا، معبر منضبط هناك، مسار إداري يليق بحقوق الناس وواجبات الدولة.
وقد يأتي ديسمبر/كانون الأول بزيارة وصور ومؤتمرات صحفية، وقد لا يأتي بشيء غير بيانات محسوبة. جوهر المعركة لن يُحسم في الميكروفونات، بل في قدرة لبنان على تحويل قراره إلى خطة، وخطته إلى مؤشرات، ومؤشراته إلى ثقة دولية تُترجم تمويلا وتمديدا واستقرارا على الأرض.
والطريق مليئة بالمطبات: مزاج نتنياهو، حسابات حزب الله وهواجسه، خطوط تماس السياسة الداخلية، واستحقاقات أممية لا تحتمل العبث. لكن ما هو مطروح اليوم يتجاوز جدل مَن يربح النقطة.
المطروح هو ما إذا كان لبنان يستطيع أخيرا أن يعيد تعريف أمنه القومي بقرار سيادي فعلي، وأن يدير انتقالا صعبا من توازن الردع إلى توازن الدولة من دون انهيار جديد. ليس مطلوبا أن يصفق أحد لأحد، المطلوب أن تُدار هذه اللحظة بأعلى درجات البرودة السياسية.
تحويل القرار إلى واقع لا يعني كسرا ولا إذلالا، بل تفكيكا محترفا لعُقد تراكمت على مدى عقود. إذا نجح لبنان في بناء هذا المسار، سيكون حاضرا عندما تتشكل خرائط الاستقرار المقبلة؛ وإن أخفق، فسيعاند وحده رياحا إقليمية لا ترحم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.