في زمن ارتفعت فيه الأسعار وتقلّصت فيه القوائم الشرائية إلى ما هو “أساسي فقط”، يبدو أن هناك شيئا لا نتخلى عنه بسهولة وهو لحظة رفاهية صغيرة. فبينما نتردّد في شراء سلعة ضرورية أو تأجيل قرار مصيري، لا نمانع في دفع مبلغ كبير نسبيا مقابل كوب قهوة، أو كريم للوجه برائحة اللافندر أو عطر مميز أو قطعة ديكور بلا داع.
هذه الظاهرة ليست مجرد نزوة استهلاكية عابرة، بل هي انعكاس لسلوك نفسي واجتماعي يُطلق عليه اقتصاديا اسم “تأثير أحمر الشفاه” (Lipstick Effect)، وهو ما سنحاول تحليله في هذا التقرير.
ما “تأثير أحمر الشفاه”؟
يشير مصطلح “تأثير أحمر الشفاه” إلى ميل المستهلكين، وخصوصا النساء، إلى شراء منتجات تجميلية أو رفاهية صغيرة نسبيا في فترات الأزمات الاقتصادية، كبديل عن إنفاق المال على سلع فاخرة أو مكلفة.
ظهر هذا المفهوم في بدايات القرن الحادي والعشرين، ولاحظه المستثمرون خلال فترات الركود مثل أزمة 2001 وأزمة 2008، حين ارتفعت مبيعات مستحضرات التجميل رغم التراجع العام في السوق.
لكن ما الذي يدفعنا لشراء “ترف صغير” ونحن في أمسّ الحاجة لتقليص النفقات؟

رفاهية نفسية أكثر من كونها مادية
في دراسة نشرتها مجلة “جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشيال سيكولوجي” عام 2012، تبين أن الأفراد في أوقات الشدة الاقتصادية يلجؤون إلى استهلاك منتجات محسّنة للثقة بالنفس أو تعزز صورتهم الاجتماعية، حتى وإن كانت غير ضرورية. فشراء أحمر شفاه، أو عطر جديد، يمنح الفرد شعورا بالتحكم في صورة نفسه أمام الآخرين، وبأنه لا يزال قادرا على الاهتمام بنفسه.
تقول الدكتورة سارة هيل، أستاذة علم النفس في جامعة تكساس، التي شاركت في أبحاث حول الظاهرة: “الناس لا يشترون الترف حين تضيق بهم الحال لأنهم مسرفون، بل لأنهم يسعون لتثبيت شعورهم بالقيمة الذاتية وسط بيئة تهدد شعورهم بالأمان”.
أثر كبير لعادات بسيطة
أثبتت دراسة نُشرت عام 2020 في مجلة “فرونتيرز إن سايكولوجي” أن السلوكيات اليومية البسيطة مثل روتين العناية بالبشرة، أو تخصيص وقت لتناول القهوة في مكان مفضل، تساهم في تقليل التوتر وزيادة مشاعر الرفاهية النفسية. هذا ما يُعرف في علم النفس بـ”الترف المصغر” (Micro-luxuries) أو لحظات قصيرة لكنها مكثفة من الشعور بالراحة والإنجاز.
وليس من الغريب أن نشهد على السوشيال ميديا ترندات مثل “أحد العناية الذاتية” أو “دلل نفسك” أو “سبا صغير بالمنزل”. هذه المفاهيم تعزز السردية الجديدة: “الرفاهية ليست ترفا، بل ضرورة عاطفية”.

منصات التواصل تغذي الهوس بالترف
تُسهم وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيم الحاجة إلى الرفاهية الصغيرة. فعبر الإنستغرام والتيك توك، أصبحت منتجات العناية الشخصية، الشموع المعطرة، وحتى ترتيب طاولة الإفطار، جزءا من هوية مرئية يشاركها الناس مع الآخرين.
تشير دراسة من جامعة بنسلفانيا إلى أن 32% من الأشخاص الذين يشاهدون محتوى “اللايف ستايل الفاخر” عبر منصات التواصل الاجتماعي، يشعرون برغبة في محاكاة هذه الطقوس، ولو بشكل رمزي ومحدود الإمكانات.
هروب نفسي أم تكيّف ذكي؟
ينقسم الباحثون حول تفسير الظاهرة. البعض يراها شكلا من أشكال الهروب من الواقع، حيث يسعى الأفراد إلى “تعويض عاطفي” مؤقت. بينما يرى آخرون أنها إستراتيجية صحية للتكيف مع الضغوط. فبدلا من الانهيار تحت وطأة القلق المالي، يُفضل البعض خلق لحظة خفيفة تشعرهم بأن الحياة ما زالت تحت السيطرة.
رفاهية لكنها ليست بلا معنى
قد يثير الأمر استغراب البعض، إذ كيف يمكن لشخص يشكو من ارتفاع الأسعار أن ينفق المئات على شامبو صحي أو مشروب مفضل.
لكن الحقيقة أن هذه الاختيارات ليست دليلا على الترف الزائف، بل محاولة للاستمرار، للحفاظ على روتين، أو حتى لبناء هوية شخصية وسط عالم يتغير بسرعة.
في ظل الأزمات المالية المتتالية، أصبح من الصعب فصل السلوك الاستهلاكي عن الحالة النفسية العامة. التقشف المادي لا يؤدي دوما إلى تقشف عاطفي أو رمزي. بل العكس أحيانا، كلما زاد الضغط، زاد التمسك بما يشعرنا بالحياة.
في دراسة نشرتها مجلة “دليل الاقتصاد السلوكي” عام 2021، تم تحليل العلاقة بين الشعور بالسيطرة والاختيارات الاستهلاكية. وتبيّن أن الناس، حين يشعرون بالعجز أمام مشكلات كبرى مثل التضخم أو البطالة، يميلون لاتخاذ قرارات شرائية تمنحهم شعورا شخصيا بالقوة، حتى لو كانت “غير منطقية” اقتصاديا.
وهنا يظهر الفرق بين “الاستهلاك المادي” و”الاستهلاك العاطفي”، الأول يُلبي الحاجة، والثاني يُلبي الشعور.

كيف نوازن بين الترف والعقلانية؟
رغم أن الظاهرة مفهومة ومبررة نفسيا، إلا أن الإفراط فيها قد يتحول إلى عبء مالي جديد، لا سيما إذا أُسيء استخدامها كوسيلة للهروب المستمر. لذلك، يُنصح بالتالي:
حدد نوع “ترفك”: ما الشيء الصغير الذي يمنحك سعادة دون أن يجهد ميزانيتك؟
خصص له هامشا في مصروفك الشهري.
احذر التراكمات: لا تجعل الرفاهية الصغيرة تتحول إلى عادة مكلفة يوميا دون إدراك.
استخدمها كأداة تعزيز نفسي، لا كمسكّن دائم.
في النهاية، الرفاهية الصغيرة ليست ضعفا ولا تبذيرا، بل ربما هي “آلية النجاة الحديثة” في عصر مليء بالضغوط.