Close Menu

    اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً

    اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.

    اختيارات المحرر

    اعتقالات وإصابات بهجمات للمستوطنين في الضفة الغربية | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    شهداء في غارات على حي الزيتون وخيام النازحين بخان يونس | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟ | سياسة

    أغسطس 12, 2025
    فيسبوك X (Twitter) الانستغرام
    الثلاثاء, أغسطس 12, 2025
    • Demos
    • السياسة
    • الرياضة
    • Buy Now
    فيسبوك X (Twitter) الانستغرام RSS
    Azem newsAzem news
    إشترك الآن
    • Home
    • Features
      • Example Post
      • Typography
      • Contact
      • View All On Demos
    • التكنولوجيا

      عودة تطبيق واتساب للعمل بعد توقفه في جميع أنحاء العالم

      مارس 10, 2022

      برمج “متنكّرة” تجد طريقها إلى تطبيق استخدمه الجيش الأميركي

      يناير 22, 2021

      خلل تقني في سيارة تسلا يتسبب في مقتل شخصين والشركة تصدر بيانا

      يناير 22, 2021

      تويتر تطلق رسميا خدمة: ادفع 8 دولار واحصل على العلامة الزرقاء

      يناير 19, 2021

      مواصفات “آيباد 10″ و”آيباد برو”.. ميزات كثيرة وبعض الملاحظات

      يناير 16, 2021
    • Typography
    • التكنولوجيا
      1. السياسة
      2. الرياضة
      3. الصحة
      4. مشاهدة الكل

      الرئيسان الأمريكي والصيني يلتقيان وجها لوجه في إندونيسيا

      مارس 10, 2022

      احتجاجات عنيفة في غوانزهو الصينية ضد إجراءات الإغلاق

      مارس 10, 2022

      ما أهمية سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ؟

      مارس 10, 2022

      وزير الخارجية البريطاني سيذهب إلى قطر لحضور المونديال

      مارس 10, 2022

      قنبلة رونالدو الإعلامية تقسم عشاق الشياطين الحمر

      مارس 10, 2022

      كأس العالم 2022: الغسيل الرياضي يلطخ صورة كرة القدم

      مارس 10, 2022

      لماذا يتجاوز عقد صلاح الجديد مع ليفربول حدود كرة القدم؟

      مارس 12, 2021

      جدول مباريات كأس العالم في قطر 2022

      يناير 22, 2021

      تعرف على كيفية عمل اختبار كورونا الذاتي في المنزل

      يناير 13, 2021

      علماء أميركيون يعلنون تطوير لقاح محتمل لفيروس كورونا

      يناير 13, 2021

      فيروس ينتشر بين أطفال مصر ومطالبات بتعطيل الدراسة

      يناير 13, 2021
      85

      بيونتك” تختبر فعالية لقاحها ضد “أوميكرون”..

      يناير 13, 2021

      عودة تطبيق واتساب للعمل بعد توقفه في جميع أنحاء العالم

      مارس 10, 2022

      برمج “متنكّرة” تجد طريقها إلى تطبيق استخدمه الجيش الأميركي

      يناير 22, 2021

      خلل تقني في سيارة تسلا يتسبب في مقتل شخصين والشركة تصدر بيانا

      يناير 22, 2021

      تويتر تطلق رسميا خدمة: ادفع 8 دولار واحصل على العلامة الزرقاء

      يناير 19, 2021
    • Buy Now
    Azem newsAzem news
    أنت الآن تتصفح:الرئيسية»أخبار»السيوف اليتيمة.. لماذا اعتبر المؤرخون ظهور دولة المماليك من “لطف الله” بالإسلام وأمّته؟ | تراث
    أخبار

    السيوف اليتيمة.. لماذا اعتبر المؤرخون ظهور دولة المماليك من “لطف الله” بالإسلام وأمّته؟ | تراث

    adminadminأغسطس 12, 2025لا توجد تعليقات103 دقائق
    فيسبوك تويتر بينتيريست لينكدإن Tumblr البريد الإلكتروني
    شاركها
    فيسبوك تويتر لينكدإن بينتيريست البريد الإلكتروني


    “من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمانَ بإحياء رَمَقِه، وتلافَى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم -من هذه الطائفة التركية (= المماليك) وقبائلها الغزيرة المتوافرة- أمراءَ حامية وأنصارا متوافية، يُجْلَبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مَقَادَة (= قَيْد) الرق الذي كَمُنَ اللطفُ في طيّه، وتعرّفوا العز والخير في مغبّته، وتعرّضوا للعناية الربانية بتلافيه”!!

    يقدّم هذا النصُّ المؤثرُ أحدَ المداخل التاريخية الثمينة التي يمكن بها مقاربة فهم واستيعاب ظاهرة المماليك؛ ففي هذا النص قدّم قاضي القضاة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في تاريخه- تقييمَه الكليَّ لأثر “دولة المماليك” (648-923هـ/1250-1517م) في الحضارة الإسلامية، واضعا إياها في السياق العام لحركة التاريخ الإسلامي في لحظةٍ أوشكت فيها الأمة الإسلامية على الانهيار تحت وطأة الاجتياح المغولي الذي أسقط بغداد سنة 656هـ/1258م، ليأتي ظهور الدولة المملوكية كـ”لطف إلهي” يحيي الأمل ويحمي قلب الإسلام.

    فعلى أيدي عبيدٍ جُلبوا من أعماق آسيا الوسطى؛ قامت دولةٌ صارت درعَ الدين وسيفَه، ليس فقط بصدّها للمغول وقضائها على الصليبيين بل بجعلها القاهرة سلطانيا وعمرانيا هي “حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّها، وتزهر الخوانق والمدارس بآفاقها، وتضيء البدور والكواكب من علمائها”!!

    إنه الوصف الباهر الآسر الذي خلّد به ابن خلدون -في كتاب رحلته- لحظةَ دخوله القاهرة المملوكية وهي تعيش ذروة مجدها، عندما وطئت أرضها قدماه سنة 784هـ/1382م لاجئًا من صراعات سياسية مريرة أرهقته في الغرب الإسلامي إفريقياً وأندلسياً.

    والواقع أن ابن خلدون إنما كان يصف ثمار مسار طويل شقته دولة المماليك (648-923هـ/1250-1517م) في قلب العالم الإسلامي تاريخا وجغرافيا؛ فقد برزت هذه الدولة -التي تحوّل فيها الجنود العبيد من الأتراك والشراكسة إلى سلاطين وقادة أفذاذ عبر الخضوع لنظام تربوي وعسكري صارم- قلعةً حضارية تحمي ديار الإسلام من هجمات الأعداء غربا وشرقا.

    لقد تمكن المماليك -قبل أن ينالهم الضعف والتفكك جرّاءَ التهاون في التكوين التربوي وصراعات العرش- من إحراز انتصارات عسكرية باهرة؛ فإذا كان قد قُدِّر للدول التي سبقتهم (السلاجقة والزنكيون والأيوبيون) أن تواجه عدواً خارجياً واحداً هو القوى الصليبية، فإن المماليك قد هيّأهم قدرُهم لمواجهة قوتين عالميتين وحشيتين: المغول والصليبيين.

    فقد أوقفت دولة المماليك المد المغولي المدمر وطهّرت الساحل المصري والشامي من بقايا الصليبيين، وكانت هذه الانتصارات الباهرة على القوى الباغية الغازية لبلاد الإسلام هي الرهان الذي كسب به هؤلاء الأرقاء حق تمثيل المجتمعات الإسلامية في تلك الحقبة الخطيرة.

    وهكذا تأسست شرعية حكم المماليك على “شرعية الإنجاز” باعتبارهم حماة الإسلام العظام الذين قدموا نموذجا جهاديا ملحميا، يعكس قوة الارتباط والانضباط ويمتزج فيه الإيمان بالفروسية والتربية بالسياسة. وقد تجاوب حينها الفقه السياسي مع هذه الحالة وتفهمها وواكبها بالتكييف الفقهي المناسب لروح ذلك العصر، وذلَّلَ العلماءُ سُبُلَ التعاون مع سلاطينهم عبر الشراكة التي عقدوها مع النخب العلمية والفكرية.

    وإلى جانب جذوة الجهاد المتقدة أضاءت مصابيح الاجتهاد؛ فكانت حواضر هذه الدولة -كالقاهرة ودمشق والقدس والحرمين الشريفين وغيرها- تموج بحياة علمية ثرية وزاخرة جعلت منها مراكز راسخة للثقافة والمعرفة، وتزينت سماواتها بقباب المساجد العامرة والمدارس الزاهرة والمنشآت الإدارية والخدمية الفخمة.

    ففي ظلال هذه الحياة العلمية؛ ازدهر العرفان والعمران بفضل موارد الأوقاف السخية التي عززتها شبكة واسعة من الأنشطة التجارية الهائلة، وضمنت للعلماء والأدباء حياة كريمة تقترن باستقلالية -في الرأي والموقف- غير منقوصة، وتركت للمماليك إرثًا عمرانيا وثقافيًا غنيا وفتّانا لا تزال شواهده -من مقتنيات وعمران- ماثلة للعِيان في القاهرة ودمشق وحلب وغيرها من الحواضر والأمصار.

    لكن هذا الإشعاع الحضاري -الذي بدا متوهجا وخالدًا وهو في ذروة عزه ومجده- سرعان ما خبا تدريجيا تحت وطأة عوامل فتاكة من الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية التي استنزفت قوى الدولة، وأنواع مظالم الفساد الإداري والمالي الذي عصف بفاعلية المؤسسات، والأزمات الاقتصادية والصحية التي فتكت بروابط المجتمع؛ فاختلت بذلك موازين حكم الدولة وشُلّتْ إنتاجية مؤسساتها بسبب ظهور أجيال من القادة ضعيفة عسكريًا وأخلاقيًا وإداريا، كما تفككت -جرّاء فسادهم وسوء سياساتهم- شبكات الحماية المجتمعية من تجارة وأوقاف وغيرها.

    وبسبب كل ذلك دخلت القاهرة -ومعها الشام والحجاز- في مرحلة متقدمة من مراحل الأفول الحضاري، لاحظها مؤرخو العصر المملوكي ونظروا إليها بوصفها أثرا للحكم السيئ وانعكاسا للتدبير السياسي العليل؛ فانهيار الحواضر الكبرى والعواصم لا يعني تهدُّم جدرانها بتوالي الضربات القواصم، ولكنها تموت حين ينهار بناؤها الأخلاقي، ويتحلل قوامُها المجتمعي، وينحدر نظامها السياسي على النحو الذي صوّر به -في مؤلفاته- مؤرخُ القاهرة تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) النخبةَ العسكرية المملوكية التي كانت تحيا -في عصره- أسوأَ أطوارها وأدوارها!!

    وفي تلك اللحظة الحرجة من عمر الدولة المملوكية؛ كانت هناك قوى إقليمية ودولية تراقب وقائع موت سريري لدولة عظيمة داخل حلتها المعمارية الزاهية، وكان في طليعة تلك القوى الصفويون القابعون في الشرق، والبرتغاليون الرابضون في الغرب، وكلتا القوتين كانت تتطلع لوراثة المكانة الحضارية لدولة المماليك، وكل منهما يطمح لاختطاف خطوط التجارة والسيطرة على حركة الموانئ؛ فجاء العثمانيون فرسموا خطوطا من نار بين مصر والشام والحجاز، والصفويين من جهة، وبينها وبين القوى الأوروبية من جهة أخرى.

    وكان من أبرز العوامل التي سهلت مهمة العثمانيين فشلُ المماليك المزمن في امتلاك قوة بحرية متماسكة وضاربة، وهو ما تجلى في هزيمتهم السريعة أمام أساطيل البرتغاليين في البحر الأحمر؛ فقد أضرت بالدولة المملوكية نزعة الانكفاء والاكتفاء وعدم مجاراة التطورات العلمية العالمية من حولها، وهو ما تجلَّى في جمودهم على صعيد التسليح العسكري الذي انعكس في رفضهم للتوسع في امتلاك واستخدام تقنية الأسلحة النارية، مما جعلهم ينكسرون -على نحو مدهش وفاجع- في مواجهة العثمانيين المدجَّجين بالمدافع.

    لقد تخطى المماليك بأمتنا مرحلة من أشد مراحلها خطورة، وكانوا -وفقا للتوصيف الخلدوني- بمثابة “لطف من الله” قيّضه لحفظ ما تبقى من حضارة الإسلام في لحظة وهن شامل، رغم الإشكالات الجسيمة التي شابت ممارساتهم في شؤون الحكم؛ إنه لطف تجسد في هؤلاء الغرباء الذين جاؤوا ولم يعرفوا لهم أبًا ولا أهلًا سوى الإسلام والسيف، ومجاهدة الأعداء، وتشييد القباب العظيمة.

    وبذلك فإن قصة المماليك ليست مجرد سيرة دولة سادت ثم بادت، أو فصلا من رواية تاريخية قرأته أمتنا طوال نحو ثلاثة قرون ثم طوته؛ بل هي مرآة تعكس -بقوة وأمانة- سنن الله تعالى في الأمم والمجتمعات وهي تخوض حركة التاريخ وتسلك دروب الحضارات صعودا وأفولا، ونموذج تطبيقي حي للدورة الحضارية التي تحدث عن قواعدها ابن خلدون بإسهاب وإعجاب في “المقدمة”، وفصلّها -في فصول تاريخه- بأمثلة واقعية عديدة.

    لقد كانت تجربة الدولة المملوكية -التي تقدم هذه المقالةُ أبرزَ ملامحها ومعالمها ودلالاتها- دعوةً للتأمل في عوامل القوة والضعف التي تحدد مصائر الشعوب والأمم وأعمار الدول والممالك؛ لاسيما حين تبني دعائمَ عمرانها على شرعية التغلب بالقوة فتحمل -منذ نشأتها- بذور ضعفها وانحلالها، وتشيع فيها المآثم الأخلاقية والمظالم الاجتماعية من فساد واستبداد واستعباد.

    ولذا فإن الخبرة التاريخية المملوكية تؤكد أن الاستباحة الخارجية تأتي دائما نتيجة طبيعية للانحلال الداخلي؛ إذْ طالما كانت الصراعات الداخلية هي البوابة العريضة المشرعة للتدخلات الخارجية، وفي هذا الملمح تحديدا يكتسي الدرس المملوكي دلالات خاصة للحظتنا الراهنة التي تلتقي مع تلك الحقبة في قواسم عديدة، ولاسيما على صعيد ثلاثية: التناحر الداخلي تظالما وتفككا وتخلفا، والتدافع الإقليمي انقساما طائفيا (سُنَّة وشيعة) وتنافسا عرقيا (أقاليم العرب والفُرْس والتُرْك)، والتصارع الدولي غزواً واحتلالا!!

    إن صفحة “تراث” يسعدها أن تقدم لقرائها الكرام هذه المقالة الضافية -التي تأتي في ظلال الذكرى الـ800 لنشأة دولة المماليك- لتبسط في طياتها قراءة موجزة لكنها مركَّزة لتجربة دولة المماليك صعودا فازدهارا ثم انحسارا فاندثارا؛ والواقع أن الصفحة حاولت -من خلال النصوص المطولة التي أنتجتها ضمن مقالات عدة نشرتها عن ظاهرة المماليك- أن تحرر هذه الظاهرة من الصورة النمطية المتداولة اليوم عن عموم المماليك باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكَرّ وفَرّ، أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ فبخلاف النظرة النمطية الشائعة عنهم نجد أن كثيرا منهم جمعوا ببراعة بين القلم والسيف وآخَوْا بنجاح بين الكِتاب والرِّكاب، فكان منهم العلماء والأدباء بقدر ما كان منهم الفرسان والأمراء!!

    Egypt-Syria: Mamluk cavalry. An illustration from the 'Complete Instructions in the Practices of Military Art' attributed to Muhammad Ibn Isa Aqsarai, c. 1375-1400 CE The Nih_yat al-suÕl wa-al-umniyah f_ taÔallum aÔm_l al-fur_s_yah ________ _______ _ __________ __ ________ _______ ____________ by Mu_ammad ibn Ô_s‡ Aqsar_Õ_ ____________ _ _______ __ _______ iis one of the best known works of cavalry training from the Islamic Middle East. It was compiled during the time of the Mamluk Sultanate (1250-1517), however, most of the book consists of material from earlier works. Some date back to the time of the 'Abbasid Caliphs of Baghdad in the 9th or even late 8th century. The Nihayat al-Su'l itself was compiled following an attack upon Alexandria by Crusader pirates operating from Cyprus in 1365. By that time, however, the Crusaders were a secondary threat as far as the Mamluks were concerned. The Mongols who occupied most of Asia beyond the Euphrates were much more serious. Traditionally the Nihayat al-Su'l is attributed to Muhammad ibn 'Isa al-Hanafi al-Aqsara'i who is said to have died in Damascus in 1348 after spending most of his life in Syria. (Photo by: Pictures From History/Universal Images Group via Getty Images) مماليك
    (غيتي إيميجز)

    نشأة عباسية
    قبل ثمانية قرون؛ نشأت دولة مهمة في منطقة قلب العالم الإسلامي -التي تُعرف اليوم بالشرق الأوسط- عرفت بدولة المماليك، وكان لظهورها واستمرارها ثم ضعفها ونهايتها قصة مثيرة تؤكد لنا ما توقّعه المؤرخ الحضاري وليُّ الدِّين ابن خَلْدُون (ت 808هـ/1406م) حين انتبه -في كتابه ‘المقدمة‘- إلى أن بداية وهن الدول يبدأ مع شيوع الترف فيها، فإذا أهلها “ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنّقوه (= تأنّقوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة”.

    وقد عاش المماليكُ هذه الحقيقة في مبتدئهم ومنتهاهم، واللافت أن ابن خلدون جاء إلى مصر -في عام 784هـ/1383م- لاجئاً من كروب السياسة في منطقة الغرب الإسلامي، وصادف مقدمه إليها السنة الأولى من العصر الثاني للدولة المملوكية (784-923هـ/1382-1517م) الذي قادها فيه “المماليك الجَرَاكسة/الشَّرَاكسة”.

    وقد أفضى إلينا هذا القاضي المؤرخ بحديث فريد عن هذه المرحلة من حياته وحياة المماليك دولة ورعية؛ فقد أخذته القاهرةُ المملوكية -التي رآها في ذروة مجدها الإسلامي والحضاري عند دخولها- فوصفها بأنها “حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين (= جمع إيوان: مجلس بثلاثة جدران ومفتوح على صحن مبناه) في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه”!!

    رأى ابن خلدون إذن القاهرة في لحظة انتقالها إلى عهد جديد إثر صراع مرير بين صنفيْ المماليك: الأتراك والشراكسة، وكان الأتراك في الأصل سادة للشراكسة، وقد وصف ابن خلدون سيطرتهم العددية بقوله إن “أكثر.. التُّرْك الذين بديار مصر من القفجاق”.

    وفي هذا العهد الجديد تغيرت أهم القواعد الأخلاقية والعسكرية التي قامت عليها الدولة المملوكية، كما لاحظ ذلك تلميذه الإمام المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1442م) -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘- الذي وصف هذا العهد بأنه شهد “سِني الحوادث والمحن التي خربت فيها ديار مصر، وفنيَ معظم أهلها، واتَّضَعتْ بها الأحوال، واختلت الأمور خللا أذِنَ بدمار إقليم مصر”.

    والواقع أن ذلك المجد الراسخ -الذي لاحظه ابن خلدون لحظة اختياره مصر المحروسة وطنا بديلا له- كان يخفي وراءه ضعفا دفينا ظلت ملامحه تتبدَّى وتزداد، منبئةً عن مقدمات وأسباب ونتائج جعلت الأتراك العثمانيين -في نهاية المطاف- يسحقون هذه الدولة المملوكية، ويستولون على أقطارها -حين طمحوا إلى السيطرة عليها- في ظرف أشهر معدودات على يد السلطان سليم الأول (ت 926هـ/1520م).

    يرجع تأسيس دولة المماليك إلى فئة “المماليك الأتراك” وهم العبيد البِيضُ المجلوبون من بلاد “ما وراء النهر” (نهر جيحون) في آسيا الوسطى، وتعود ظاهرة جلبهم إلى فترة مبكرة من عمر الحضارة الإسلامية، لاسيما في العصر العباسي بدءا من أيام الخليفة المهدي (ت 169هـ/787م) وابنه هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، ثم تعاظم حضورهم في عهد المأمون العباسي (ت 218هـ/833م) وأخيه وخليفته المعتصم (ت 227هـ/842م) ثم الواثق بالله بن المعتصم (ت 232هـ/847م).

    ويحدثنا ابن خلدون -في تاريخه- عن تدرُّج هؤلاء المماليك الأتراك في سلّم المجتمع الإسلامي، بداية من عملهم في الصنائع والمهن، ومرورا بانخراطهم في الجيوش جنودا مقاتلين، ودخولهم دواوين الحكم مديرين مدبّرين وكَتَبَة مثقفين، وانتهاء بتبوّئهم أعلى مناصب السلطة العسكرية والسياسية قادةً وأمراء وسلاطين.

    فهو يذكر أن الخلفاء العباسيين استكثروا من جلب المماليك الأتراك وكانوا “يسلمونهم إلى قَهارمة (= خبراء) القصور وقَرَمَة (= سادة) الدواوين، يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة، وآداب الملك والسياسة، ومِراس الثقافة (= التدريب العسكري) في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح، والبصر بأمور الحرب والفروسية، ومعاناة الخيول والسلاح، والوقوف على معاني السياسة”، حتى إذا أتقنوا تلك الفنون “ملئوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد، والحروب والصوائف والحراسة على السلطان، زينةً في أيام السلم وإكثافا لعصابة الملك”.

    ثم لم تمض سوى عقود على حشود هؤلاء المماليك المجلوبين والمدرَّبين حتى “سَمَوْا في دُرَج الملك، وامتلأت جوانحهم من الغزو، وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد؛ فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء، وقعدوا بدست (= كرسي) الملك ومدرج النهي والأمر، وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم، وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل (الخليفة العباسي المتوفى 247هـ/861م) وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان، ونَهَجَ (= هَيّأ) السلفُ منهم في ذلك السبيلَ للخلف واقتدى الآخر بالأول، فكانت لهم دُوَلٌ في الإسلام متعددة تعقب غالبا دولة أهل العصبية وشوكة النسب”؛ وفقا لابن خلدون.

    وبذلك مثَّل العصر العباسي الحقبة الأولى لصعود نجم “المماليك الأتراك” العسكري ثم السياسي في سماء العالم الإسلامي، حين شكّلوا عماد الجيوش العباسية مما فتح لهم باب النفوذ الطاغي على بلاط الخلافة في بغداد، بدءا من منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي حين أقدم قادتهم على تنفيذ أولِ عمليةِ قتلٍ لخليفةٍ عباسيٍ باغتيالهم المتوكل.

    People visit the Panorama 1453 History Museum on the 570th anniversary of the conquest of the city by Ottoman Turks, in Istanbul, Turkey May 29, 2023. REUTERS/Murad Sezer مماليك - تراث
    (رويترز)

    تجربة أيوبية
    أما عصر الصعود الثاني للمماليك الأتراك فكان في آخر الدولة الأيوبية؛ وذلك عندما استجدت أسباب داخلية شهدها بيت الحُكم بعد وفاة السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب (ت 589هـ/1193م)، وأدت إلى انقسام الدولة إلى أجزاء يحكمها الأبناء ثم الإخوة والأحفاد، مما أجَّجَ نارَ صراعٍ بين هذه الأجنحة أدى تفاقمُه إلى سقوط الدولة الأيوبية في مصر بأيدي هؤلاء المماليك سنة 648هـ/1250م، ثم في بلاد الشام جرّاء الاجتياح المغولي سنة 657هـ/1259م.

    فقد كان كل فريق يدعم موقفه بالجنود المرتزقة، وأكثر من اعتمد على هؤلاء الجنود كان السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، فقد اعتمد على بقايا جنود الدولة الخوارزمية الهاربين من بطش المغول بعد وفاة سلطانهم الأخير جلال الدين خوارزمشاه مِنكُوبِرْتي (ت 628هـ/1231م)، وإثر انتهاء تمرد هؤلاء الخوارزمية لاح للصالح نجم الدين أن يتوسع في شراء المماليك الأتراك القِفْجاق/القِبْجاق من منطقة وسط آسيا، وكذلك من دولة خانات “القبيلة الذهبية” المغولية، وذلك بعد أن “انفضّ عشيره وخذله أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده”؛ طبقا لابن خلدون.

    ولهذه الأسباب؛ فإن نجم الدين أيوب “اشترى من المماليك التُّرك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظمَ عسكره، ورجّحهم على الأكراد وأمَّرهم، واشترى -وهو بمصر- خَلْقًا منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه (= بلاطه)، وسمّاهم «البحرية»”؛ كما يخبرنا مؤرخ الأيوبيين ابن واصل الحَمَوي (ت 697هـ/1298م) في كتابه ‘مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب‘.

    على أن وفاة السلطان نجم الدين أيوب -في أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر- بمدينة المنصورة أدت إلى خُلُوّ الساحة من قائد يدير المعارك، وهو ما جعل فرقة المماليك العسكرية تُبدي صلابة وجسارة في مواجهة الفرنج الصليبيين؛ فقد أبادوا قواتهم واجتاحوا معاقلهم.

    ولئن كان قادة المماليك -الذين عُرفوا من ذلك التاريخ بـ”المماليك البحرية” لكونهم نشؤوا وتخرجوا في جزيرة الروضة وسط نهر النيل بالقاهرة- قد احترموا تولي تُورانْشاه بن الصالح أيوب (ت 648هـ/1250م) السلطةَ خلفا لوالده؛ فإنهم رأوا فيه طيشا وتهوُّراً اعتقدوا بسببه أنه سيبدد المكتسبات السياسية والعسكرية التي ترتبت على هزيمتهم للصليبيين، وما تلاها من أسْرهم لقائد الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م) ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م) واعتقاله بمدينة المنصورة.

    ولذا أسرع قادة المماليك -الذين خافوا من تخلُّص تورانْشاه منهم قبل تنحيتهم إياه عن العرش- إلى القضاء عليه وإنهاء حُكمه، ثم أعلنوا تنصيب زوجة السلطان الراحل نجم الدين أيوب “الملكة عصمة الدين أم خليل شجرة الدر الصالحية (ت 655هـ/1257م)، فأقاموها في السلطنة وحلفوا لها” بالولاء والطاعة؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘.

    ومن لحظة ارتقاء “عصمة الدين شجرة الدر” سدّةَ العرش بدأت بالفعل دولة سلاطين المماليك (648-923هـ/1250-1519م)؛ طبقا لرأي المقريزي الذي يقول في تاريخه ‘السلوك‘: “وهذه المرأة -شجرة الدر- هي أول من مَلَكَ مصر من ملوك الترك المماليك”!!

    وعندما لم يُعجِب الخليفةَ العباسي الأخير ببغداد المستعصم بالله (ت 656هـ/1258م) ما حدث في مصر من تولية امرأةٍ منصبَ السلطنة، أرسل “من بغداد كتابا إلى مصر وهو يُنكر على الأمراء ويقول لهم: «إن كانت الرجال قد عُدِمتْ عندكم فأعلمونا حتى نسيِّر إليكم رجلا»” تجعلونه سلطانا عليكم؛ وفقا للمقريزي. وعندها تنازلت شجرة الدر عن العرش، وتزوجت قائد الجيش الأمير عز الدين أيْبَك التركماني (ت 655هـ/1257م)، ليكون بذلك أول سلاطين دولة المماليك من الرجال.

    لقد رصد الإمام المحدِّث المؤرخ بدر الدين العَيْني (ت 855هـ/1451م) -في كتابه ‘عِقد الجُمان‘- هذا التحول التاريخي في انتقال حكم مصر من الأيوبيين إلى مماليكهم؛ فقال: “وكان ذلك انتهاء الدولة الأيوبية بالديار المصرية وابتداء الدولة التركية وظهور مُلك [المماليك] البحرية”.

    ومنذ تلك اللحظة؛ حمل المماليكُ على عاتقهم مهمةَ قيادة قلب العالم الإسلامي بأضلاعه المركزية الثلاثة (الحجاز ومصر والشام)، وحماية الحرميْن الشريفين والمسجد الأقصى المبارك؛ مؤمِّنين تلك المنجزات بفرض سيطرة مؤسستهم البحرية الإسلامية على البحرين: الأحمر والأبيض والمتوسط.

    وقد أرجع ابن خلدون -في تاريخه- سياقَ تحمُّل المماليك لمهمة حماية قلب العالم الإسلامي إلى لحظة الصدمة المغولية التي روّعت الأمة الإسلامية “فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رَمَقِه، وتلافَى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم -من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة- أمراءَ حامية وأنصارا متوافية، يُجْلَبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مَقَادَة (= قَيْد) الرق الذي كَمُنَ اللطفُ في طيّه، وتعرّفوا العز والخير في مغبّته، وتعرّضوا للعناية الربانية بتلافيه”!!

    ثم وصف العطاءَ العظيم الذي قدمته أجيالهم الأولى للعالم الإسلامي بقوله إنهم كانوا “يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع، ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة، ولا كَسَر من سَوْرتها (= شِدتها) غزارة الترف…، عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية، فلا يزال نَشْوٌ (= فَرْع) منهم يُردف نَشْواً، وجيل يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغَناء والدولة ترفّ أغصانها من نضرة الشباب”!! وهكذا إذن كان “لملوك التُّرْك بمصر… الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين”؛ طبقا لابن خلدون.

    Interior of the Mosque of Sultan Hassan, Cairo, Egypt, 19th century. View inside the mosque built by the Mamluks in the 14th century. From Egypt and Nubia, Vol 3, by David Roberts. Artist David Roberts. (Photo by Historica Graphica Collection/Heritage Images/Getty Images) مماليك - تراث
    (غيتي إيميجز)

    تكوين متين
    وقد اتكأت إنجازات المماليك في هذا الطور التاريخي -الذي تواصل نحو ثلاثة قرون (648-923هـ/1250-1517م)- على سلسلة من السلاطين (نحو 50 سلطانا) والأمراء، الذين تولوا سُدّة الحُكْم وشتى مناصبه السياسية والعسكرية والإدارية، بعد أن خضعوا في تنشئتهم لنظام تكويني تربوي صارم يشبه برامج التكوين العسكري اليوم في أقوى المدارس والمؤسسات العسكرية.

    ويمدنا الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بملامح هذا النظام التربوي والعسكري الصارم، الذي كان يخضع له المماليك في قلعة الجبل بالقاهرة، ويبدو أنه لم يكن سوى نسخة أخرى مطورة من نظام تنشئة المماليك الأتراك في عصر صعودهم الأول أيام قوة الخلافة العباسية، وقد سبق لنا التعرض لمعالم منهاجهم التكويني نقلا عن ابن خلدون.

    يقول المقريزي شارحا النظام التأهيلي للمماليك في عصر صعودهم الثاني: “كانت للمماليك بهذه الطِّباق (= الثُّكْنات) عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجرُه عَرَضَه على السلطان وأنزله في طبقة جنسه، وسلَّمه لطواشيّ (= خادم/مشرف) برسْم (= بغرض) الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة (= مجموعة عرقية) لها فقيه يحضُر إليها كلّ يوم ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط، والتمرّن بآداب الشريعة ومُلازمة الصلوات والأذكار”.

    ثم يضيف المقريزي: “وكان الرسم (= العادة) إذْ ذاك ألا تَجلب التجارُ إلا المماليكَ الصغار، فإذا شبَّ الواحد من المماليك علَّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع الحرب مِن رَمْي السهام ولَعِب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلَّ طائفة معلمٌ (= مدرِّب) حتى يبلغ [الفتى المملوكُ] الغايةَ في معرفة ما يحتاج إليه” من فنون الحرب ومهارات القتال.

    وهو يشيد بهذه الطريقة التي اتُّبِعت بصرامة شديدة طوال العصر المملوكي الأول في دولة المماليك البحرية (648-782هـ/1250-1380م)، إذْ جمعت بين الآداب الشرعية والفنون الأدبية والعلوم العسكرية والتربية الأخلاقية؛ فيقول: “فلا يبلغ [الفتى المملوكُ] هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلامِ وأهلِه بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النُّشّاب (= السِّهام)، وحسُن لَعِبُه بالرمح، ومَرِن على ركوب الخيل. ومنهم من يصيرُ في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر”!!

    ثم يحدثنا المقريزي عن الرقابة الصارمة المفروضة على أدق تفاصيل حياة هؤلاء الفتيان المماليك، والتي يعهد بأمرها إلى ثلاثة أشخاص مسؤولين جميعا عن كل فتى مملوك؛ فيقول: “ولهم أزِمّة (= مشرفون) من الخُدّام وأكابر يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عَثر أحد من مؤدّبيه –[المدرس] الذي يعلّمه القرآن أو الطواشيّ (= كبير الخدم) الذي هو مُسلَّم إليه أو رأس النَّوْبَة (= القائد العسكري) الذي هو حاكم عليه- على أنه اقترف ذنبا أو أخلّ برسم (= ترتيب وظيفي)، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جُرْمِه”!!

    وقد لاحظ المقريزي -ببصيرته التاريخية الفذّة- أثر تلك التربية الشاملة والصارمة في تكوين سلاطين المماليك الأولين، وتعاظم قوة دولتهم سياسيا وعسكريا؛ فسجل ذلك -في ‘المواعظ والاعتبار‘- مشيدا ببراعتهم السياسية ومهارتهم العسكرية واستقامتهم الأخلاقية: “فلذلك كانوا سادةً يُدبِّرون الممالك، وقادةً يجاهدون في سبيل الله، وأهلَ سياسةِ يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارَ أو تعدّى”!!

    Armor in steel UNSPECIFIED - NOVEMBER 19: Armour in steel, chain mail and leather for an Ottoman-Mamluk knight and horse. Late 16th and early 17th century. Florence, Museo Stibbert (Art Museum) (Photo by DeAgostini/Getty Images) مماليك

    جذوة جهادية
    وقد ظهرت آثار هذه التربية الخصبة والمكينة على سلوك المماليك -وخاصة في عهد دولة “المماليك البحرية”- في معاركهم العسكرية وانتصاراتهم التاريخية المتوالية؛ بدءا من معركة المنصورة الفاصلة التي أنهوا بها أحلام الصليبيين في العودة إلى المشرق، بعد هزيمة حمْلتهم العدوانية بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع وأسْره وقتْل نصف جيشه.

    ومحورية دور المماليك في هذه المعركة التاريخية هي التي جعلت معاصريها يطنبون في الإشادة بأمرائهم، ويصفونهم بأنهم “أحيوْا في ذلك اليوم الإسلامَ من جديد، بكل أسد من التُّرْك قلبه أقوى من الحديد؛ فلم تكن إلا ساعة وإذا بالإفرنج قد ولَّوا على أعقابهم منهزمين، وأسُود الترك لأكتاف خنازير الإفرنج ملتزمين”؛ طبقا لتعبير المؤرخ ابن أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) في كتابه ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.

    وخلال الفترة 659-690هـ/1261-1291م تمكّن المماليك من تحرير جميع المدن والقلاع والموانئ الإسلامية من احتلال الصليبيين، التي عجزت أجيال مشروع التحرير السالفة (السلاجقة والزنكيون والأيوبيون) عن انتزاعها من براثنهم، فأعادوا إلى هذا المشروع وهَجَه الذي خبا خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري/الـ13م.

    فقد حمل سلاطين المماليك -منذ تسلَّم الحكمَ مؤسسُ دولتهم الفعلي الظاهر بَيْبَرْس البُنْدُقْدَاري (ت 676هـ/1277م)- مشعلَ الجهاد المتواصل ضد الصليبيين لاقتلاعهم من الساحل الشامي برمته؛ منطلقين في ذلك من واقع سيطرتهم القوية والمركزية على وحدة مصر والشام التي مكّنتهم من كسب رهان الحروب الصليبية خلال ثلاثة عقود فقط!!

    يقول المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في ‘المنهل الصافي‘: “كان الملك الظاهر [بَيْبَرْس].. ملكاً شجاعاً مقداماً، خبيراً بالحروب ذا رأي وتدبير وسياسة ومعرفة تامة. وكان سريع الحركات.. نالته السعادة والظَّفَر في غالب حروبه، وفتح عدة فتوحات من أيدي الفرنج”؛ ثم ذكر المؤرخ من هذه الفتوح أكثر من 14 موضعا شاميا كانت معاقل قوية للصليبيين.

    على أن قمة إنجازات الظاهر بَيْبَرْس -الذي أطلق شرارة مطاردة الصليبيين سنة 663هـ/1265م- كانت إسقاطه إمارة أنطاكية الصليبية سنة 666هـ/1268م، وهي ثانية إمارات الصليبيين تأسيسا بعد إمارة الرُّها (= مدينة أورْفا بتركيا اليوم)؛ وكان تحريرها أعظمَ إنجاز للمسلمين بعد استعادة صلاح الدين القدسَ قبل نحو قرن إثر معركة حطين في سنة 583هـ/1187م.

    وقد لاحظ المؤرخ ابن واصل الحموي حجم الإنجاز الهائل المتحقق في أيام بَيْبَرْس حين قارنه بأعمال نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) وصلاح الدين، بل إنه فضّل صنيعه عليهما لتضاعف أعباء الاحتلال في عصره بـالعدوان المغولي؛ فقال: “رحم الله الملك الناصر صلاح الدين.. فلم يؤيَّد الإسلام بعد الصحابة.. برجل مثله ومثل نور الدين محمود بن زنكي..؛ فهما جددا الإسلام بعد دروسه..، ثم أيد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين (= بَيْبَرْس)، وكان أمره أعجب! إذ جاء بعد أن استولى التتر (= التتار) على معظم البلاد الإسلامية، وأَيِسَ الناسُ أن لا انتعاش للملة؛ فبدّد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية، ومَلَك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية”!!

    ولما توفي بَيْبَرْس؛ حمل خليفتُه المملوكي السلطانُ المنصور قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) رايةَ المواجهة لتصفية بقايا الوجود الصليبي بالشام فاستولى على عدة حصون صليبية، ثم ختم حياته بإنجازه الأعظم عندما أسقط رابعة الإمارات الصليبية تأسيسا وهي طرابلس الشام التي حررها سنة 688هـ/1289م. وبصنيعه هذا أكمل المنصور قلاوون تفكيك إمارات الصليبيين الأربع التي تشكلت منها “المملكة اللاتينية في الشرق” أو “المملكة المقدسة” في بلاد الشام زهاءَ قرنين!!

    يقول الملك أبو الفداء الأيوبي الذي يؤكد -في تاريخه- أنه شخصيا حضر تحرير طرابلس: “لما نازلها السلطان نصبَ عليها عدّة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها.. بالسيف ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء فنجَى أقلُّهم في المراكب، وقُتل غالب رجالها.. وغنِم منهم المسلمون غنيمة عظيمة”.

    ثم استعد السلطان قلاوون لاستعادة آخر وأكبر معاقل الصليبيين بالشام في عصره، وهي إمارة عكّا التي لم تكن أصلا ضمن إماراتهم الأربع الأولى، وإنما تشكلت من فلولهم التي سمح صلاح الدين بخروجها من القدس وغيرها من المعاقل التي فتحها على الساحل، ثم توفي صلاح الدين قبل أن يتمكن من انتزاعها من قبضتهم.

    وقد التقت هذه الفلول لاحقا في مدينة صور كما يقول ابن الأثير فـ”اجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم”؛ ثم هاجموا منها عكا بدعم من قادة الحملة الصليبية الثالثة التي وصلت عكا سنة 587هـ/1191م يتزعمها الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد (ت 596هـ/1199م)، فاحتلوها بعد حصار مرير وأمعنوا في أهلها قتلا وتنكيلا، وأسسوا فيها إمارة صليبية خامسة عاشت قرنا كاملا.

    لكن قلاوون توفي سنة 689هـ/1290م وهو على رأس جيشه متجها من القاهرة إلى عكا لفتحها؛ فكانت إنجازاته العظيمة تلك دليلا على صدق مقولة ابن خلدون فيه أنه “حسُنتْ آثار سياسته وأصبح حُجّةً على مَن بعده” من السلاطين!! ثم اضطلع بمهمة تحرير عكا بعده ابنه السلطان الأشرف خليل (ت 693هـ/1292م).

    وفي فجر 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م، وبعد حصار دام أسبوعين؛ وقع الهجوم الهائل على أسوار المدينة فكان التحرير والانتصار الباهر. ويصف لنا الدَّواداري -في ‘كنز الدرر‘- أجواء هذا الحدث التاريخي الحاسم؛ فيقول إن الأشرف “زحف عليها (= عكا) بالجيوش بكرةَ النهار قبل طُلوع الشمس، وضُربت الكُوسات (= آلات نحاس تقرع بقوة لإخافة الأعداء) مع طبلخانات (= طبول) الأُمراء، مع صراخ الأبطال وصهيل الخيل وقعقعه السلاح؛ فخُيّل لأهل عكا [من الفرنج] أن القيامة قد قامت في تلك الساعة!! فلم تطلُع الشمس من الأبراج إلا والسناجق (= الأعلام) السلطانية الإسلامية على.. الأبراج، والفرنج.. قد ولَّوْا الأدبار وركنوا إلى الفرار”!!

    وبسحق الصليبيين داخل أسوار عكا في جمادى الأولى سنة 690هـ/1291م؛ طُويت صفحة دموية استمرت قرنين كاملين من أوزار الحروب الصليبية فـ”تكاملت بذلك جميع البلاد الساحلية للإسلام، وطُهِّر الشام من الفرنج بعد أن كانوا قد أشرفوا على مُلك دمشق ومُلك مصر”؛ وفقا للمؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) في تاريخه.

    ثم إن المماليك هم الذين صدّوا -قبل ذلك وبعده- الاجتياحات المغولية في معارك فاصلة استمرت نصف قرن؛ فلئن كانت معركة حطين -في رجب سنة 583هـ/1187م- شكّلت بداية النهاية للاحتلال الصليبي في الشام، فإن معركة عين جالوت -التي وقعت بين بيسان ونابلس بفلسطين يوم 25 رمضان 658هـ/3 سبتمبر 1260م- كانت المحطة الحاسمة في وقف المد المغولي الجارف للهيمنة على المنطقة، بعد إسقاطهم عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 656هـ/1258م وإخضاعهم الخاطف لمركز الشام دمشق سنة 658هـ/1260م.

    فقد استمر زحف المغول مظفَّرا وهم “عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام”؛ حسب ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- حتى واجههم المسلمون في عين جالوت “فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقُتِل أمير المغول”.

    ويرسم لنا ابن كثير بقلمه صورة احتفاء المسلمين بانتصارهم المدوي هذا بقيادة أمراء دولة المماليك، الذين اكتسبوا شرعيتهم السياسية النهائية من بلائهم الكبير في هذه المعركة الفاصلة؛ فيقول إنه “جاءت بذلك البشارة، ولله الحمد على جبْره إياهم بلطفه، فجاوبها دَقُّ البشائر (= طبول تقرع للأخبار السارّة) من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيَّد الله الإسلام وأهله تأييدا”!!

    المصدر : الجزيره - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
    (المصدر : الجزيرة – ميدجورني)

    حسم تاريخي
    وعلى صعيد جهود تقوية الجبهة المصرية الشامية أمام الأطماع الصليبية المتجددة كان للأسطول البحري المملوكي إسهام مركزي في ذلك التحصين؛ ففي سنة 659هـ/1261م تولى السلطان الظاهر بَيْبَرْس البُنْدُقْدَاري عرش الدولة المملوكية فوضع خطة لإعادة تنظيم كافة قطاعاتها، وشمل ذلك صناعة الأسطول البحري.

    وعن ذلك يحدثنا المقريزي (ت 845هـ/1442م) -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- فيقول: “ونظر [بَيْبَرْس] في أمر الشّواني (= جمع «شَوْنَةُ»/«شيني»: سفينة قتالية) الحربية وكان قد أُهمِل أمر الأسطول بمصر..، وأنشأ عدّة شواني بثغريْ دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى «دار الصناعة» ورتَّبَ ما يجبُ ترتيبه، وتكامل عنده ببرّ مصر ما ينيف على أربعين قطعة، وعدة كثيرة من الحراريق (= جمع حَرَّاقة: سفينة قاذفة للنيران) والطرائد (= جمع طريدة: سفينة حربية هجومية)”.

    وسرعان ما آتت جهود بَيْبَرْس أكُلَها باستعادة الأسطول المملوكي لزمام المبادرة العسكرية؛ ففي عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1341م) كانت جزيرة أرواد -الواقعة اليوم ضمن سوريا- قد “اجتمع فيها (= سنة 702هـ/1302م) جمعٌ كثير مِن الفرنج..، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين..، فعُمِّرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم (= البحر المتوسط)..، وجرى بينهم قتال شديد، ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة”؛ وفقا للملك المؤرخ أبي الفداء الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.

    وبسبب الهجمات القبرصية البحرية على سواحل مصر والشام التي أثارت مخاوف من تجدد أطماع الصليبيين في المنطقة؛ زاد اعتناء المماليك بصناعة أساطيلهم حتى بلغت ذروة قوتها بسيطرتهم على قبرص التي كانت حينها آخر معقل إستراتيجي للصليبيين يهددون منه بلاد الإسلام انطلاقا من منطقة شرقي المتوسط، ويتخذونه منطلقا لمهاجمة المراكب التجارية والعسكرية المملوكية والإسلامية.

    ففي أواخر سنة 829هـ/1426م أمر السلطان المملوكي سيف الدين بَرْسْبَاي (ت 841هـ/1437م) “بعمارة الأغربة (= جمع غُراب: السفينة الحربية الكبيرة) والحمّالات (= السفن الحربية المعدة لحمل المعدات والخيول)، وجدَّ في ذلك وبذل الأموال..، ويُقال إنه بلغت عدة العمارة (= الأسطول) -أغربةً وحمالاتٍ وزوارقَ- مئتيْ قطعة وزيادة”؛ حسب الإمام ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر’.

    ويضيف ابن تَغْري بَرْدي -الذي كان معاصرا لتلك الأحداث- أن الغارات المملوكية تواصلت على جزيرة قبرص، وانتهت المحاولات الثلاث بنجاح القادة المماليك في تحقيق هدفهم؛ إذْ “ركبوا عائدين بالأسرى والغنيمة وبصاحب قبرس (= الملك جانوس بن جاك المتوفى 835هـ/1431م) إلى أن وصلوا إلى الثغور الإسلامية، ثم ساروا نحو القاهرة، فدخلوها في يوم الأحد سابع شهر شوال سنة تسع وعشرين وثمانمئة (829هـ/1426م)…، وقد اجتمع لرؤيتهم من الخلائق عالَم لا يحصي عددَهم إلا الله”!!

    لقد كان انتصار المماليك في قبرص حدثا تاريخيا أعاد إلى الأذهان أمجاد الانتصارات الإسلامية الكبرى بعد نحو قرن ونصف من توقفها، وهو ما جعله جديرا بتنظيم أحد احتفالات النصر المهيبة التي احتفظت لنا كتب التاريخ الإسلامي بتفاصيلها الدقيقة؛ فمبجرّد وصول الأخبار بحصول هذا الانتصار الحاسم “دقّت البشائر بالقلعة (= مقر السلطان بالقاهرة) لهذا الفتح ثلاثة أيام”؛ وفقا للمؤرخ جمال الدين ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في كتابه ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‘.

    وينقل لنا هذا المؤرخ -وهو ابن أمير مملوكي- أجواء تلقي السلطان لهذا الفتح العظيم وتفاعل الرأي العام المسلم مع الحدث؛ فيقول إن بَرْسْبَاي لما بلغه الخبر “كاد أن يطير فرحا، ولقد رأيته وهو يبكي من شدّة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله”! ثم أمر السلطان بدق “البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن الإسلام لما بلغهم ذلك، وارتجّت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور الذي هجم عليهم، وقُرئ الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية.. بالقاهرة، حتى سمعه كلّ من قصد سماعه، وقالت الشعراء في هذا الفتح عدّة قصائد”!

    ولم يكتف السلطان المملوكي باحتفالاته عند سماع الخبر؛ فقد ادَّخر لقادة الفتح وجنوده -الذين “أراحوا أبدانهم سبعة أيام” في قبرص “وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح”- ضروبا أخرى من الاحتفالات، اجتمع لرؤيتها “خلائق لا يعلم عِدّتَهم إلا الله تعالى، حتى أتت أهلُ القرى والبلدان من الأرياف للفرجة”!!

    وتضمن هذا الاحتفالُ المهيبُ مسيرةً حافلة جابت شوارع القاهرة، واحتشد الناس -رجالا ونساء- في شوارعها لرؤية الغزاة وغنائمهم، فقد “ركبت الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة..، وشقُّوا القاهرة إلى باب زويلة..، والخلق في طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل لا يسمع كلام رفيقه، من كثرة زغاريد النّساء -التي صُفّت على حوانيت القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهن أحد لذلك- والإعلان بالتكبير والتهليل، ومن عِظَم التهاني! هذا مع تخليق (= تطييب) الزعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى في الأزقة”!!

    ولم تكن هذه المسيرة العسكرية الحاشدة عشوائية؛ بل كان الغزاة منظمين بدقة في استعراضهم بحيث إن “ترتيب مشيهم [كان] يُذهب العقل” بجماله وتناسقه، فقد “قدّموا أوّلا الفرسان من الغزاة أمام الجميع، ومن خلف الفرسان طوائف الرّجّالة (= المشاة) من المطّوّعة (= المتطوعون للقتال)..، ومن خلف هؤلاء الجميع الغنائمُ محمولة على رؤوس الحمّالين، وعلى ظهور الجمال والخيول والبغال والحمير، والتي كانت على الرؤوس فيها تاج الملك [الفرنجي] وأعلامه منكَّسة، وخيله تقاد من وراء الغنائم، ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج، ثم من بعدهم السبي من النساء والصّغار”!!

    ويضيف ابنُ تَغْري بَرْدي أنه من وراء جميع الأصناف المتقدمة وُضع “جينوس (ت 835هـ/1432م) ملك قبرس (= قبرص) وهو راكب على بغلٍ بقيدِ حديدٍ” في غاية الإذلال والمهانة!! ثم ساروا “على هذه الصِّفة حتى طلعوا إلى القلعة (= مقر السلطان بالقاهرة)؛ فأنزِل جينوس عن البغل وكُشف رأسه..، وقد صُفّت العساكر الإسلامية من باب المدرّج إلى داخل الحوش السلطاني”!!

    ويخبرنا هذا المؤرخ أنه لما انتهت المسيرة إلى القلعة “أمر السلطان بإحضار متملّك قبرس فتقدّم ومشى وهو بقيوده ورأسه مكشوفة، وبعد أن مشى خطوات أمِر فقبّل الأرض ثم قام، ثم قبّل الأرض ثانيا بعد خطوات، وأخَذ يُعَفِّر وجهه في التّراب، ثم قام فلم يتمالك نفسه -وقد أذهله ما رأى من هيبة المُلك وعِزّ الإسلام- فسقط ثانيا مغشيا عليه، ثم أفاق من غشوته وقبّل الأرض، وأوقِف ساعة بالقرب من السلطان بحيث إنه يتحقّق شكله..، هذا مع ما الناس فيه من التّهليل والتّكبير بزُقاقات القلعة، وأطباق (= ثُكنات) المماليك السلطانية وغيرها”!!

    ويختم ابنُ تَغْري بَرْدي مشاهد هذه الاحتفالات وآثارها التي تواصلت مدة طويلة؛ فيقول: “كان هذا اليوم يوما عظيما جليلا لم يقع مثله في سالف الأعصار، أعزّ الله تعالى فيه دين الإسلام وأيّده وخذل فيه الكفر وبدّده!! ثم انفضّ الموكب ونزل كلّ واحد إلى داره، وقد كثرت التهاني بحارات القاهرة وظواهرها لقدوم المجاهدين، حتى إن الرّجل كان لا يجتاز بدرب ولا حارة إلا وَجد فيها التخليقَ (= التطييب) بالزّعفران والتهاني، ثم أمر السلطان بهدم الزينة فهُدمت، وكان لها مدّة طويلة”!!

    شرعية واقعية
    وهكذا فإن المماليك صاروا يحكمون بـ”شرعية الإنجاز” المتحققة من تلك الانتصارات العظيمة التي قابلتها جماهير الشعب بالحفاوة والتقدير البالغ؛ إضافة إلى أن الخليفة القرشي العباسي -الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- صار مقره القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ”السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين”؛ وفقا للمؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) في ‘ذيل مرآة الزمان‘.

    فمن المعلوم أن السلطان الظاهر بيبرس كان استقبل أحد أمراء البيت العباسي الفارين من سيوف المغول يسمى أبا القاسم أحمد بن محمد (ت 660هـ/1262م)، وهو حفيد للخليفة القوي الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م)، فبايعه بيبرس -في مفتتح عهد سلطنته- ليكون بذلك أولَ الخلفاء العباسيين في مصر، وأطلق عليه لقب “المستنصر بالله الثاني”.

    وبهذا التتويج سعى بيبرس إلى ضمان استمرار نظام “الخلافة” كرمز لوحدة المسلمين انطلاقا هذه المرة من القاهرة، وربما على أمل العودة بها إلى بغداد عندما تتهيأ الظروف. لكن لم تفلح محاولته تلك؛ بل ظل منصب هذه الخلافة الجديدة قائما على نحو صوري دون سُلطة حقيقية على أرض الواقع في مصر والشام والحجاز، لكن -في الوقت ذاته- ظل تعاقب هؤلاء “الخلفاء” العباسيين على منصب “الخلافة” مستمرا لإضفاء الشرعية السياسية والدينية على سلطة المماليك حتى نهاية دولتهم على أيدي العثمانيين.

    إن “شرعية الإنجاز” الواقعية تلك هي التي جعلت قوتُها الإمامَ ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) يخص سلاطين المماليك بالتحريض على التصدي للتتار الزاحفين من العراق إلى الشام ومصر -بعد “إسلام” ملوكهم- بقيادة سلطانهم قازان بن أرغون (ت 703هـ/1303م) سنة 702هـ/1302م.

    فقد أصدر فتوى تُلزم المماليكَ بالجهاد لكنها تمنحهم “الشرعية السياسية”، وتحشد الرأي العام لمناصرتهم في المقاومة حتى لا تتكرر هزيمتهم أمام التتار “المسلمين” سنة 699هـ/1300م. وقد جاء في فتوى ابن تيمية تلك: “أما الطائفة (= المماليك الحاكمين) بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتِلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي ﷺ.. في الأحاديث الصحيحة المستفيضة”.

    ثم أتبع الشيخ ذلك برسمه خريطةً لجغرافيا المسلمين السياسية -من العراق إلى المغرب ومن اليمن إلى الشام- مبرهِنا بها على صدقية ما ذهب إليه من تفرد المماليك بالأهلية لقيادة المسلمين؛ فرأى أن “من يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها..، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم.

    وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيِّعون له..؛ وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة.. وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعَفون عاجزون..؛ وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها..؛ وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك..؛ فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام..، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية”!!

    لقد عُمّرت دولة المماليك الأولى -أو عصر المماليك الأتراك البحرية- ما يقارب مئة وثلاثين سنة، تربعت فيها الأسرة القلاوونية التي بدأت مع السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) على عرش المماليك زهاء قرن (678-784هـ/1279-1385م).

    وهي فترة تخللها صعود بعد السلاطين الآخرين من خارج هذه الأسرة لفترة قصيرة مثل السلاطين: زين الدين كتبُغا (ت 702هـ/1302م)، وحسام الدين لاجين (ت 698هـ/1299م)، وبَيْبَرْس الجاشْنَكِير (ت 709هـ/1309م)، الذين تسلطنوا جميعهم مدة ست سنوات تقريبا مثّلت استثناء من حكم الأسرة القلاوونية، التي بزغ فيها السلاطين الكبار: المنصور قلاوون والأشرف خليل بن قلاوون والناصر محمد بن قلاوون، ثم جاء أبناء هذا الأخير وبعض أحفاده.

    مثّل موتُ السلطان القوي في السلطنة المملوكية الناصر محمد بن قلاوون -الذي حكم ثلاث مرات وكان أطول السلاطين حُكما- بدايةً لتسلُّط كبار الأمراء المماليك على رقاب السلاطين الأطفال أو الشباب الضعاف من أبناء الناصر محمد وأحفاده، فاستغلّ الجراكسة -في نهاية الأمر- هذه الأحداث وانقلبوا على الحكم التركي بالكلية.

    وبذلك أسس الشراكسة لأنفسهم عصرا جديدا بدأ مع السلطان الظاهر برقوق بن آنص العثماني اليلبُغاوي (ت 801هـ/1399م) الذي استطاع تصفية منافسيه من الأمراء “فلم يبق له معاند، وصار له من المماليك الجراكسة عدد كبير جُلبوا إليه من البلاد فرقّاهم إلى ما لم يخطر لهم ببال، وأنعم على جماعة منهم بإمريّات (= مناصب رفيعة)”؛ طبقا لما في كتاب ‘السلوك‘ للمقريزي الذي يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه قد “زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمئة (784هـ/1386م)”.

    وإذا كان “المماليك البحرية” قد عززوا شرعية حكمهم إثر انقلابهم على أسيادهم من الأيوبيين بإحياء الخلافة العباسية انطلاقا من القاهرة؛ فإنه يبدو أن ورثتهم من “المماليك البرجية” حاولوا أن يسوغوا شرعية انقلابهم على أسيادهم من “المماليك البحرية” بادعائهم نَسَباً عربيا لعرقهم الشركسي، وذلك عبر ادعائهم انتساب الشركس إلى قبيلة غسان القحطانية حسبما يخبرنا به المؤرخ ابن خلدون بقوله: “فانحازت قبائل غسّان إلى هذا الجبل (= جبل شركس بالقوقاز) عند انقراض القياصرة والروم، وتحالفوا معهم واختلطوا بهم ودخلت أنساب بعضهم في بعض، حتى ليزعم كثير من الشركس أنّهم من نسب غسّان”!!

    وقد استفاضت مسألة الانتساب العربي لسلاطين الشركس في عصر المماليك البرجية حتى نهاية دولتهم؛ فهذا خاتمة مؤرخي العصر المملوكي ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م) يذكر -في كتابه ‘بدائع الزهور في وقائع الدهور‘- أنه “كان [السلطان] برقوق من خلاصة الجراكسة، من قبيلة يقال لها «كسا»؛ نقل بعض الثقاة من المؤرخين أن قبيلة «كسا» كانت من نسل جبلة بن الأيهم بن الحرث الأعرج ابن أبى شمر الغساني (ت 24هـ/645م)، من قبيلة غسان” العربية اليمانية!!

    بل يبدو أنه “ظلت هذه الأسطورة حية بين المجتمع المملوكي المصري في ظل حكم العثمانيين”؛ وفقا للمستشرق دفيد آيالون (David Ayalon المتوفى 1418هـ/1998م) في بحث له عن المماليك منشور ضمن كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الصادر عن مؤسسة «بريل» الهولندية.

    التاريخ الإسلامي- تراث -الوراقون والمكتبات- المصدر ميدجيرني
    (ميدجيرني)

    عناية علمية
    ولئن كان “المماليك البحرية” قد عززوا شرعية حكمهم بإحياء الخلافة العباسية انطلاقا من القاهرة، وحاول خلفاؤهم “المماليك البرجية” تعضيد تلك الشرعية بادعائهم نَسَباً عربيا لعرقهم الشركسي، ثم عزز كل منهما سلطنته بأعمال جهادية عظيمة كانت نسبة “البحرية” منها أكثر عددا وأكبر أثرا من “البرجية”؛ فإن رابعة ركائز شرعية الحكم لكليهما كانت عناية سلاطينهما الفائقة بالحياة العلمية رجالا وأعمالا وأموالا، عبر رصد الأوقاف الغزيرة لتمويل تأسيس وتسيير المرافق التعليمية العظيمة من مدارس ومساجد والخانقاوات/الخوانق (زوايا صوفية).

    وهو ما رصده ابن خلدون -في كتاب مذكرات حياته (الرحلة)- بقوله عن سلاطين المماليك عموما: “أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيون… بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء (= المتصوفة) في التخلق بآداب الصوفية السنّية في مطارحة الأذكار ونوافل الصّلوات…، فيختطّون مبانيها، ويوقفون الأراضي المُغَلّة للإنفاق منها على طلبة العلم ومتدرّبي الفقراء…، واقتدى بسَننهم في ذلك مَنْ تحت أيديهم من أهل الرئاسة والثروة، فكثرت لذلك المدارس والخوانق”!!

    ولذا كان لمصر المملوكية -بعصريْها البحري والبرجي- صيتُها المدوّي بعظيم الاحتفاء بالعلماء على النحو الذي وصفه ابن خلدون أيضا قائلا عن سلطانها الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م): “ورَحَل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر، فأوسعهم [الناصرُ] حباءً (= عَطاءً) وبِرًّا، وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرُّبُط (= الزوايا الصوفية) والخوانق (= الخانقاهات: المدارس الصوفية)، وأصبحت دولتُهم (= المماليك) غُرَّةً في الزمان وواسطةً في الدول”!!

    والواقع أن هذا الاعتناء العظيم بالعلم والعلماء سبق عصر الناصر بنحو نصف قرن، وإن أخذ في عهده بعدا راسخا بقدر رسوخ وازدهار سلطنته الممتدة نحو أربعة عقود؛ فقد أدرك السلطان الظاهر بَيْبَرْس أهمية الأزهر من حيث التاريخ والموقع، فأراد توظيف تلك المكانة لتعزيز شرعيته عبر تدريس المذاهب السنية الأربعة أصولا وفروعاً، ثم صار الأمراء والسلاطين من بعده يتنافسون في بناء الجوامع وتأسيس المدارس، والإنفاق عليها ورعاية طلابها، وكان هذا جزءا لا يتجزأ من شرعيتهم الشعبية وهيبة سلطانهم.

    فنظرًا لما تلقّاه المماليك -وهم في طور الشباب- من تنشئة دينية صارمة نظريا وعمليا، على النحو الذي سبق لنا وصفه؛ فقد حرص سلاطينهم -استكمالا لترسيخ الأبعاد الدينية لنظام حكمهم في أعين الشعب- على تقريب العلماء والزهّاد والقضاة واستشارتهم وتعظيم جنابهم، احتراما لمكانتهم أو مهابة لعواقب تأثيرهم الشعبي.

    فمثلا يروي الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘حُسن المحاضرة‘- أن السلطان الظاهر بَيْبَرْس كان أمام هيبة سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام (ت 661هـ/1259م) “مُنقمِعًا… لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر مُلكي إلا الآن”!!

    ويروي الإمام ابن حَجَر العسقلاني -في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمر‘- أن السلطان الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) حين أنشأ مسجده الجامع، وقرر فيه شيوخًا يتولون التدريس “استقر [الشيخ] علاء الدين السيرامي (الحنفي المتوفى 790هـ/1388م) مُدرسَ الحنفية بها وشيخَ الصوفية بها، وبالغ السُّلطان في تعظيمه حتى فرش سجّادته بيده”!

    ونظرًا للمكانة العظيمة التي حازها العلماء وما تولوه -في الدولة المملوكية (648-922هـ/1250-1517م)- من الوظائف الدينية كالقضاء والتدريس والفتيا والإمامة والخطابة والوعظ، والوظائف الديوانية مثل الإشراف على الأوقاف وتولي قضاء الجيش وديوان المال والوزارة وجهاز الحِسبة؛ كان علماء الشرع من الفقهاء والصوفية على رأس المشاركين في حملات المماليك العسكرية أيضًا.

    والمواقف الدالة على ذلك أكثر من أن تُحصى؛ منها مثلا مشاركتهم في مقاتلة التتار وطرد الصليبيين من المدن الشامية، ففي رجب من عام 666هـ/1267م “جهّز السلطان [الظاهر بَيْبَرْس] عسكرًا إلى الشقيف (تقع جنوبي لبنان اليوم وكان يحتلها الصليبيون آنذاك)، ثم سار إليها بنفسه.. وقدم الفقهاء للجهاد”؛ وفقا للمقريزي في تاريخه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.

    ومن ذلك أيضا المساهمة الكبيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية في تحريض أمراء المماليك على مواجهة التتار معركة شَقْحَب، وهو ما يخبرنا به تلميذه شمس الدين محمد ابن عبد الهادي المقدسي (ت 744هـ/1344م) -في كتابه ’العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية’- قائلا إنه في “أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمئة (702هـ/1302م) كانت وقعة شَقْحَب (= قرية تبعد اليوم عن دمشق 38كم جنوبها) المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ (= ابن تيمية) وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته ونهاية كرمه…؛ ما يفوق النعت ويتجاوز الوصف”.

    وينقل لنا ابن عبد الهادي عن أحد أصحاب ابن تيمية -وكان ممن حضر معه تلك المعركة- انبهارَه بـ”كثرة من حضرها من جيوش المسلمين”؛ ثم أورد حديثه عن مكانة شيخه عندهم فـ”قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين (= ابن تيمية) ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين”.

    وإذا كانت العلاقة بين السلطان والفقيه في عصر المماليك ظلت -في غالب الأحيان- تدور على قاعدة تكريم العلماء وتعظيم مكانتهم؛ فإن هذه القاعدة وجدت في الواقع العملي المتعلق بمؤسسات الدولة والمجتمع ما يرسخها، ويمنحها حواضن مؤسسية تكفل لها الاستمرارية في أدائها وعطائها، وتضمن للعلماء الاستقلالية في رسالتهم العلمية والمجتمعية.

    ومن هنا حرص هؤلاء المماليك على عمارة المنشآت الدينية والتعليمية ورصد الأوقاف السخية، لتزداد قوة ورسوخا عما كانت عليه في العصر الأيوبي؛ وهو أمر صبّ في مصلحة خدمة الإسلام نشرا لعلومه ورعاية لطلبتها وعلمائها، وإن تنوعت دوافع ذلك وأهدافه بين الرغبة في ابتغاء الأجر الأخروي وطلب التقرب إلى الرعية وكسب ولائها، وفي الحالتين فإن الحياة العلمية كانت هي المستفيدة والظافرة وهو ما تجلى في ذخائر المكتبة العربية في شتى المعارف، مما جعل من العصر المملوكي عصر الموسوعات المعرفية بلا منازع.

    ولذا لم يكن من المستغرب أن يصف القاضي المؤرخ ابن خَلْدُون -في تاريخه- أوقافَ المماليك في مصر بأنها “الأوقاف التي جاوزت حُدودَ النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه” أي أقاليمه وسكانها، بل إنها لكثرتها “أصبحت خافيةَ الشُّهرة مجهولةَ الأعيان”!! وقد تنوعت منشآت هذه الأوقاف ما بين المساجد والمدارس وخانقاهات الصوفية وكتاتيب الأطفال -وخاصة الأيتام منهم- والمستشفيات والمكتبات وأسبلة السقاية والخانات والفنادق وغيرها.

    ويلاحظ أحيانا أن المماليك هم الذين كانوا يبادرون في إنشاء الأوقاف وافتتاح المساجد والجوامع رغم الاعتراض على ذلك من بعض الفقهاء وقُضاة القضاة؛ ومن ذلك قصة إعادة افتتاح الجامع الأزهر في عصر السلطان بَيْبَرْس سنة 665هـ/1267م، بعد مئة عام من إغلاقه بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي.

    وكانت الأوقاف على هذه المؤسسات -من الأراضي الزراعية الخصبة وغيرها- تدرّ ملايين الدنانير الذهبية كل عام، فتصرف على الصيانة والتعمير ومرتبات العلماء وطلبة العلم وأبناء السبيل. وقد نقل الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار’- أنه لكثرة هذه الأوقاف -قبل أن تتعدى عليها أيادي ظَلَمَة الأمراء في عصره- صارت تُشرف عليها ثلاث إدارات مستقلة: “الأولى: تُعْرف بالأحباس (= الأوقاف السلطانية)، ويلي هذه الجهة دَوَادار (= أمين سر) السلطان وهو أحد الأمراء، ومعه ناظر الأحباس ولا يكون إلا من أعيان الرؤساء”.

    والإدارة الثانية “تُعْرف بالأوقاف الحُكْمية (= الأوقاف القضائية) بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعي…، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف…؛ وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمّة”. وأما الإدارة الثالثة فهي “الأوقاف الأهلية (= الأوقاف الشعبية)، وهي التي لها ناظر خاص إما من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي…، وكان متحصلها قد خرج عن الحد في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع”!!

    The Mosque-Madrassa of Sultan Hassan is a massive Mamluk era mosque and madrassa located near the Citadel in Cairo. Its construction began 757 AH/1356 CE with work ending three years later
    (بي بي سي)

    مؤسسات خدمية
    وبفضل هذه المؤسسات الوقفية الوفيرة والموارد المالية الهائلة المرصودة لها، ناهيك عما يخصص لها من مؤسسة بيت المال العام؛ راجت سوق المعارف والعلوم في عصر المماليك بعد أن “ابْتَنَى أكابرُ الأمراء وغيرُهم من المدارس ما ملأ الأخطاط (= أحياء المُدُن) وشَحَنَها”؛ وفقا لتعبير المؤرخ شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) في ‘صبح الأعشَى في صناعة الإنشا’.

    وتدل المعطيات التاريخية المتوافرة عن هذه المدارس على تنوعها المذهبي، وأن دعم المماليك المالي والمدرسي للمذاهب الفقهية لم يكن مرتبطا بانتمائهم إلى مذهب معين، فما من مذهب إلا وأنشؤوا لأتباعه مدارس ورصدوا لهم أوقافا، وأحيانا تكون المدرسة مشتركة بين مذهبين أو أكثر، وإن ظل كثير منها مخصصا للمذهبين الشافعي والحنفي لظروف المكانة الخاصة لكل منهما في نفوس معظم سلاطين وأمراء المماليك.

    فلم يكن إذن من المستغرب حينها أن نجد عدة علماء عظماء في عصر واحد وربما في قُطر واحد من أقطار الدولة المملوكية. وهكذا نلاقي في مصر أئمة كبارا مثل الأئمة: العز بن عبد السلام الشامي الأصل والنشأة والمصري المهجر والوفاة (ت 661هـ/1259م)، وتقي الدين بن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م)، وعلَم المتصوفة أبي الفضل أحمد ابن عطاء الله السكندري (ت 709هـ/1309م)، وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة (ت 733هـ/1333م)، وتقي الدين السُّبكي (ت 756هـ/1355م)، وشيخ الإسلام سراج الدين البُلْقَيْني (ت 803هـ/1400م) والمقريزي وابن حَجَر العسقلاني وبدر الدين العَيْني.

    كما نجد نظراء لهم في الشام مثل: شرف الدين النووي (ت 676هـ/1277م) وقاضي القضاة ابن الزَّمْلَكاني (ت 727هـ/1327م) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وعَلَم الدين البِرْزالي (ت 739هـ/1338م) وجمال الدين المِزِّي (ت 742هـ/1341م)، وشمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) وابن القيم (ت 751هـ/1350م) وتاج الدين السُّبكي المصري المولد الشامي الدار والوفاة (ت 771هـ/1359م) وابن كثير (ت 774هـ/1372م).

    وقِسْ على ذلك أمثالهم في حواضر الحجاز واليمن الداخلة ضمن الدولة المملوكية، بل وحتى من أعلام العلماء الذين لجؤوا إلى مصر خلال هذه الحقبة الزاهرة واتخذوها وطنا بديلا عن أوطانهم الأصلية، كما حصل لقاضي قضاة المالكية والمؤرخ العظيم عبد الرحمن ابن خَلْدُون عندما نزل بالقاهرة سنة 784هـ/1382م فمُنح -على الفور- كرسيا للتدريس في الأزهر. وقد حدثنا عن ذلك -في كتاب رحلته- بقوله: “وانثال عليّ طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلستُ للتدريس بالجامع الأزهر بها”.

    ولئن كانت رعاية المماليك للحياة العلمية والدينية في دولتهم (علماءَ وعلوماً ومؤسساتٍ خادمةً لكليهما) عظيمة في مستواها ومحتواها؛ فإنه يبقى من الأمور اللافتة أن هذه العناية سرعان ما نشأت في كنفها فئة واسعة من أمراء المماليك أنفسهم وأبنائهم، مما يوحي بأن الأمر كان وعياً عاما بين أوساط المماليك وليس لدى سلاطينهم فقط؛ فدخلت هذه الفئة التاريخ من باب العلم تحصيلا وتوصيلا وليس من بوابة السياسة والعسكر، وكانت -بوجه ما- هي المكافئ الذكوري لـظاهرة الجواري المثقفات والعالمات في الحضارة الإسلامية.

    ولا ريب أن هذه الفئة -التي يمكن تسميتها بـ«المماليك العلماء» في مقابل «المماليك الأمراء»- تنفي الصورة النمطية المتداولة اليوم عن المماليك، باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكرّ وفرّ أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ والحال أن المنتمين منهم إلى فئة العلماء أسهموا إسهامات عظيمة ومؤثرة في مسيرة العلوم الشرعية والأدبية تعليمًا وتأليفًا وهم لا يزالون في ملابس الجندية وعُدّة القتال، ناهيك عن تبديدها لصحة الفكرة الشائعة عن عصر المماليك باعتباره عصر انحطاط علمي وفكري وأدبي.

    وإذا دققنا النظر في نشأة فئة «المماليك العلماء» هذه -في شقها المتعلق بالعصر المملوكي- فسنجد أنها تعود إلى بدايات تأسيس الدولة المملوكية، وربما ترجع نماذجها الأولى إلى العصر الأيوبي ثم زاد بروزها في زمن السلطان الصالح نجم الدين أيوب، الذي نجد أن أحد أبرز مماليكه -وأعظم سلاطين المماليك فيما بعد- وهو الظاهر بَيْبَرْس كان يلقب بـ”العالِم المجاهد”!!

    وعلى صعيد ازدهار المؤسسات التعليمية بمصر؛ يُمكن اعتبار عصر المماليك هو العصر الذهبيّ لمؤسسة الأزهر جامعا وجامعة؛ فالمقريزي يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- بأن مَنْ “يلازمون الإقامة فيه بلغت عدتهم في هذه الأيام (= سنة 818هـ/1415م) سبعمئة وخمسين رجلا ما بين عَجَمٍ وزَيَالعة (= منتسبون إلى زَيْلَع: مدينة كانت شمالي الصومال اليوم)، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواق يُعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه، والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحِلَق الذِّكْر”.

    وإلى جانب الأزهر؛ كانت هناك عشرات المدارس العلمية التي تنافسَ السلاطين والأمراء والوجهاء في بنائها وتشييدها طوال العصر المملوكي، وقد أورد منها الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- نحو 50 مدرسة عرّف بتواريخ إنشائها وعطائها، ومن أسسها من السلاطين والأمراء بل ونسائهم، والمذاهب التي كانت تدرّس فيها، والأوقاف التي كانت مرصودة لتمويل العملية التعليمية فيها.

    ومن أعظم تلك المدارس الخالدة آثارها إلى اليوم: “مدرسة السلطان حسن” التي ضمت أجنحة دراسية للمذاهب الفقهية الأربعة، وكانت مع ذلك مسجدا جامعا. ويفيدنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه بُدئ في إنشائه سنة 757هـ/1356م، فجاء “في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل، فلا يُعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع، أقامت العمارة (= التشييد) فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم (= اليوم 40 ألف دولار أميركي تقريبا)”!!

    ولم يكن أمر الحياة العلمية في الشام المملوكية بأقل شأنا مما كان عليه في مصر، بل إنه قد يفوقه أحيانا كثيرة؛ فإذا كان المقريزي أرّخ لـ50 مدرسة كانت في القاهرة المملوكية حتى عصره، فإن المؤرخ المملوكي عبد القادر النعيمي الدمشقي (ت 927هـ/1523م) عرّف -في كتابه ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- بـ130 مدرسة قرآنية وحديثية وفقهية كانت في مدينة دمشق وحدها!!

    وهذا العلامة السوري الدكتور مصطفى السباعي (ت 1384هـ/1964م) يلخص لنا -في كتابه ‘من روائع حضارتنا‘- ازدهار المؤسسات العلمية الشامية، حسبما بلغه أمرها في حقبة فاصلة شهدت نهاية الدولة المملوكية وصعود وريثتها الدولة العثمانية في نهاية الربع الأول من القرن العاشر الهجري/الـ16م.

    فنجده يقول -اعتمادا على ما أورده المؤرخ النعيمي في ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- إنه “كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة. هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس”.

    وإلى جانب المؤسسات التعليمية الوافرة الزاهرة؛ كانت مراكز الرعاية الصحية من أعظم المرافق الخدمية العامة التي تميزت بها الدولة المملوكية، وقد أطلق القدماء على هذه المستشفيات أسماء ذات أصل فارسي فدعوها “البيمارستانات” أو “المارستانات”، وعرّبوها أحيانا بـ”دار الشفاء” أو “دار المرضى”.

    وقد أعطى سلاطين المماليك عنايتهم لإنشاء هذه المؤسسات الصحية التي كانت تقدم مجانا خدمات العلاج من كافة الأمراض (العضوية والعقلية) لمرتاديها مهما كانت فئاتهم وانتماءاتهم، ورصدوا لها الميزانيات الضخمة من الأوقاف الوفيرة وغيرها.

    وقد أمدّنا المؤرخ المقريزي مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأسماء عدد المارستانات/المستشفيات الكبرى التي أقيمت بالعواصم المصرية -من الفسطاط وحتى القاهرة- خلال أربعة قرون حتى عصره، ملاحظا أن بعضها انْدَرس قبل زمانه، فكان من المارستانات التي ذكرها وتعود إلى الحقبة المملوكية: «المارستان المنصوري» الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م)، و«المارستان المؤيَّدي» الذي أنشأه السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م).

    ويقدم لنا مؤرخ الحضارات الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- معطيات تاريخية تلخص عظمة تلك المؤسسات الطبية وخدماتها الصحية، ولاسيما «المارستان المنصوري» الذي يصفه بأنه “أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق”!!

    وعن هذا المستشفى يقدم ديورانت تفاصيل بالغة الدقة والعجب عن إحكام نظامه الصحي، وكيف أنه كان مدعوما بمنظومة متكاملة من المرافق الصحية والخدمية؛ فيقول إنه “كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين”!

    ويضيف أنه “كان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالا كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقّاء أو أحرارا، وكان كل مريض يُعطَى عند خروجه منه -بعد شفائه- مبلغا من المال حتى لا يُضطر إلى العمل لكسب قوته بعد خروجه منه مباشرة، وكان الذين ينتابهم الأرقُ يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويُعطَوْن -في بعض الأحيان- كتبا تاريخية للقراءة” تحصيلا للعلم أو تزجية للوقت!!

    قرر أن يستميل الجراكسة المماليك إليه، ونجح بالفعل في هذا الأمر، ثم قرر أن ينزل ضربته القاصمة في السباهية الأتراك العثمانيين قتلا وتشريدا في موقعة الخانقاه
    (مواقع التواصل الاجتماعي)

    صراعات مدمرة
    في تعليل مفارقة التدهور المؤسسي المبكر والمطرد للدولة المملوكية من نقطة الأوج -التي راكمت عندها تلك المنجزات الحضارية التي تناولنا معالمها آنفا- إلى درك السقوط المريع؛ تجدر بنا العودة قليلا إلى لحظات الميلاد والتأسيس التي حملت في طياتها محفزات ذلك التدهور بذورا وجذورا.

    لقد ورثت الدولةُ المملوكية الأولى تقاليدَ الحكم التي أرستها الدولةُ الأيوبية المتأسسةُ على أنقاض الدولة الفاطمية في كل من مصر والشام، وأحيت ما كان انْدَرَس من معالم مشروع الإحياء السُّني الكبير الذي قاده الزنكيون والسلاطين الأيوبيون الأولون، قبل أن يعصف باطراد إنجازاته المختلفة صراعُ ورثتهم على السلطة.

    كانت كل دولة من الدول الثلاث تلتزم بما هو ثابت في هذا المشروع العظيم، وتحاول أن تتكيف مع المتغيرات المطلوبة وفقا للقلقشندي: “فلما مَلَكَ السلطانُ صلاحُ الدين.. الديارَ المصرية جرى على هذا المنهج أو ما قاربه، وجاءت الدولة التركية (= المماليك) وقد تنقحت المملكة وترتبت، فأخذت في الزيادة في تحسين الترتيب وتنضيد الملك وقيام أبهته، ونقلت عن كل مملكة أحسن ما فيها، فسلكت سبيله ونسجت على منواله حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب وفاقت سائر الممالك”!!

    لقد أدى ذلك الإتقان للتراتيب الإدارية في الدولة المملوكية -الذي بفضله “فاقت سائر الممالك”- إلى بزوغ عصر العظمة في تاريخها، رغم أنه يمكننا القول إن نظام الحكم في هذه الدولة كان قائما -منذ نشأتها- على شرعية التغلب بالقوة العارية، والشرعيةُ الواقعيةُ فيه إنما هي للمتغلبين من قادة المؤسسة العسكرية المملوكية، الذين ما فتئوا “متنافسين في الملك حتى يغلب واحد منهم الآخرَ فيقتله ويقتل سلطانَه…، وينصّب آخر منهم مكانَه”؛ وفقا لابن خلدون.

    فطوال عصر دولة المماليك (648–923هـ/1250-1517م) ظلت السلطة على جُرُفٍ هارٍ من القوة والصراع، وترسخت ظاهرة الانقلابات العسكرية في الحياة السياسية بأعنف نماذجها، وذلك بالقبض على السلاطين الضعفاء وسجنهم وقتلهم. وهو الصراع الذي تلخص فداحتَه حقيقةُ أن نحو نسبة 24% فقط من سلاطين المماليك -بطائفتيْهم البحرية والبرجية (عددهم زهاء 50 سلطانا)- توفوا وفاة طبيعية وهم في الحكم، بينما نجد أن نحو 75% منهم انتهى حكمهم بالقتل أو العزل!!

    ولعل اطراد هذه الظاهرة -في الدولة المملوكية- إنما بدأ في عهد السلطان بَيْبَرْس الجاشْنَكِير (ت 709هـ/1309م)، فقد بالغ في اضطهاده للسلطان الناصر محمد بن قلاوون في سلطنة الأخير الثانية (698–708هـ/1299-1308م)، حتى إنه اضطره إلى الخروج من مصر إلى الكَرَك -التي تقع اليوم جنوبي الأردن- يشتكي إلى الأمراء الموالين له في الشام ما “كان فيه من ضيق اليد وقلة الحُرمة، وأنه لأجل هذا ترك مُلك مصر وقَنِع بالإقامة في الكرَك”؛ حسبما يذكره المقريزي في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.

    أعلن بَيْبَرْس الجاشْنَكِير -بتأييد من أمراء المماليك بمصر- توليه السلطنة، لكن الناصر قلاوون عاد -بعد أقل من سنة- مسنودا بدعم عارم من أمراء الشام، فدخل مصر وقبض على الجاشْنَكِير فأودعه في سجن البرج الكبير بقلعة الجبل في القاهرة. ويصف المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- لحظات نهاية السلطان الجاشْنَكِير -وهو مخلوع مودَع في السجن- قائلا: “جاء السلطانُ الملك الناصرُ [إلى السجن] فخنق [بَيْبَرْس] بين يديه بـِوَتَرِ [قوْسٍ] حتى كاد يتلف، ثم سيَّبه حتى أفاق وعنّفه وزاد في شتمه، ثم خنقه ثانيا حتى مات”، فكان ثأره منه تعذيبًا وقتلا!!

    ولئن قـَتل الناصرُ قلاوونَ خصمَه الجاشْنَكِير؛ فإن المصير ذاته آل إليه بعض أولاد الناصر ممن تولوا السلطنة بعد وفاته سنة 741هـ/1340م، وأولهم السلطان المنصور أبو بكر بن محمـد بن قلاوون (ت 742هـ/1341م)، فقد ارتقى المنصور هذا سدة العرش بوصية من أبيه عند وفاته، ولكن حكمه لم يطُل نظرا لصغر سنه إذ كان في العشرين من عمره، ولتنازع الأمراء من حوله واستخدامهم له في الصراع على النفوذ والإقطاع.

    ثم إن المنصور هذا لم يكن مرْضي السيرة؛ إذْ كان منهمِكا في “اللهو وشرب الخمور وسماع الملاهي، فشق ذلك على الأمير قوصون (الساقي الناصري المتوفى 742هـ/1341م) وغيره لأنه لم يُعْهَد مِن مَلِك قبْلَه شُربُ خمرٍ”؛ كما يقول المقريزي (ت 845هـ/1442م) في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.

    حاصر الأميرُ قوصون الناصري -الذي كان حينها أحدَ كبار الأمراء ومدبرَ الدولة بوصية من الناصر قلاوون- السلطانَ المنصور في قلعة الجبل بالقاهرة، ولما أيقن الجميع بقوة قوصون ومساندة الأمراء له صدر القرار بنفي المنصور إلى مدينة قوص في صعيد مصر تحت “الترسيم” أي الحراسة المشددة، وبعد مدة قليلة صدر قرار التخلص منه وهو في سجنه.

    ويقول ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- إن المنصور “دَسَّ عليه قوصون [الأميرَ] عبد المؤمن متوليّ قوص؛ فقتله [بمقرّ إقامته الجبرية] وحمل رأسه إلى قوصون سرّا..، وكتموا ذلك عن الناس”. وكان هدف قوصون من ذلك القضاء على منافسه السلطان المخلوع مخافة أن يرجع إلى عرشه من جديد!

    واللافت أن قوصون -الذي صار مدبرَ أمر السلطنة وقائد الجيش فيها- عَيّن طفلا صغيرًا من أطفال الناصر قلاوون اسمه كُجُك (ت 746هـ/1345م) سلطانا، وصار يلقب بـ”الأشرف” وهو لا يزال في السابعة من عُمره، وبذلك أضحى الأمير قوصون السلطان الحقيقي للبلاد فـ”سَكَنَ بدار النيابة التي بالقلعة، وتصرّف في أمور المملكة بما يختار”؛ وفقا لتعبير ابن إياس الحنفي في ‘بدائع الزهور‘.

    وقد عبر أحد شعراء مصر حينها -كما يرويه ابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة’- عن هذا الواقع المضحك المبكي بقوله:
    سلطانـُنا اليومَ طفلٌ والأكــابرُ في ** خـُلْفٍ، وبينَهم الشيطانُ قد نَزَغا
    فكيف يَطمع مَن تــغْشيه مَظلمةٌ ** أنْ يَبلُغَ السُّؤْلَ والسلطانُ ما بَلَغا؟!

    وبعد تمكنه من السلطة؛ عمل قوصون على إقصاء واضطهاد منافسيه من كبار الأمراء والقبض عليهم، ولذلك قرروا الانتقام منه فحاصروه في القلعة وقبضوا عليه وأرسلوه إلى سجن الإسكندرية شمالي مصر. ويقول ابن تَغْري بَرْدي إن قوصون “استمرّ.. بسِجن الإسكندرية.. حتى حضر الملك الناصر أحمد [ابن قلاوون (ت 745هـ/1344م)] من الكَرَك، وجلس على كرسي المُلك بقلعة الجبل…، واتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله [الأمير الشامي] شهاب الدين أحمد بن صُبح (الكردي المتوفى بعد 759هـ/1358م) إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون [في سجنه]” حتى مات.

    وبمقتله على تلك الحالة؛ شرب قوصون من كأس الاغتيال التي سقى منها غيره، كما شرب منها بعده الناصر أحمد حين عزله المماليك ونصبوا مكانه السلطان الصالح إسماعيل ابن قلاوون (ت 746هـ/1345م)، الذي جند جيوشا لمحاصرته بالكرك سنتين فقبضوا عليه وسجنوه، ثم أرسل من احتزّ له رأسه هناك وجاء به إليه وهو في القاهرة!

    بل إن السلطان الأشرف كُجُك -وهو ذلك الطفل الذي وافق اسمُه مسمّاه (كُجُك küçük بالتركية معناها: صغير) فلم يكن يدرك ولا يعلم ما يجري حوله!- قرر الأمراء الكبار خلعه، فعزلوه ووضعوه تحت الإقامة الجبرية في “الدُّور السلطانية تحت كنف والدته، وهو ووالدته في ذُلّ وصَغار وهوان” داخل قلعة الجبل، وظل بها حتى قرر السلطان الكامل شعبان (ت 747هـ/1346م) التخلص منه بعد أربع سنوات من تلك الإقامة الجبرية.

    ويقول المقريزي -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- إن كُجُك مات “عن اثنتي عشرة سنة، واتُّهِم السلطان [الكامل] [بـ]ـأنه بعث مَن قتله في مضجعه على يد أربعة خُدّام”!! ولم يكن التخلص من هذا السلطان المخلوع -وهو لم يبلغ الحُلم- إلا خوفًا على العرش!! وبعد التخلص من كُجُك تعاقب على العرش المملوكي 11 سلطانا من أبناء وحفدة الناصر محمد قلاوون، أي إنه إثر وفاة الأخير تولى السلطنة 13 سلطانا طوال 23 سنة، بمعدل نحو سنة ونصف لسلطنة كل منهم!!

    المصدر : الجزيره - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
    (الجزيرة – ميدجورني)

    انتكاسة تربوية
    ورغم ذلك الاضطراب والتدافع المتسارع على قمة هرم السلطة أواخر “دولة المماليك البحرية”؛ فإن مظاهر ضعف الدولة المملوكية -الذي بدأت علائمه تتقوّى مع مطلع القرن التاسع الهجري/الـ15م- لم تبرز حقيقة إلا مع وصول أول السلاطين الجراكسة -وهو الظاهر برقوق- إلى سدة الحُكم في رمضان سنة 784هـ/1382م، لاسيما بعد أن جددت وفاتُه فتحَ بابِ الصراع الدموي على العرش بين أقوياء أمراء المماليك.

    فبانقضاء عهد سلاطين المماليك الأولين؛ لم تتعمق فحسب ظاهرةُ الصراع على السلطة والانقلابات العسكرية، بل بدأ الانحلال يدبّ في أوصال الدولة المملوكية مع التراخي في تطبيق النظام التأهيلي للطبقة العسكرية الحاكمة عسكريا وأخلاقيا.

    وإذا كان المقريزي قد رصد بدقة أسباب قوة “المماليك البحرية”؛ فإنه لاحظ أيضا -وهو الذي عاش في كنف حكم “المماليك البحرية” عشرين سنة و”المماليك الجراكسة” ستين سنة- تدهورَ الأوضاع في عصر الأخيرين، وذلك بدايةً من مطلع القرن التاسع الهجري/الـ15م مع انتهاء حكم السلطان الجركسي الأول الظاهر برقوق بوفاته سنة 801هـ/1399م.

    ويؤكد المقريزي أن السلطان برقوق قد التزم بالقواعد العسكرية والتربوية التي وضعها سلاطين المماليك البحرية، مثل سيف الدين قطز (ت 658هـ/1260م) والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وابنه الناصر محمد بن قلاوون وغيرهم، لكن الصراع الأهلي الذي وقع بين الأتراك (القِفْجاق) والجراكسة في حدود سنة 791هـ/1392م -في محاولة من المماليك البحرية لاستعادة مجدهم وسلطتهم باءت بالفشل بعد أشهر قليلة- جعل برقوق يعودُ إلى السلطنة، وقد قضى على خصومه نهائيا متخذا قرارات مغايرة لقواعد تدبير الدولة المملوكية الأولى (المماليك البحرية).

    ويورد المقريزي أهم تلك التغييرات السلوكية؛ فيقول إن السلطان برقوق “رخَّص للمماليك في سكنى القاهرة، وفي التزوّج؛ فنزلوا من الطباق (= الثكنات) من القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة، وأخلدوا إلى البطالة، ونسوا تلك العوائد (= القواعد الأولى)، ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق (ت 815هـ/1412م)، وانقطعت الرواتب من اللحوم وغيرها حتى عن مماليك الطباق مع قلة عددهم، ورتَّب لكلّ واحد منهم في اليوم مبلغَ عشرة دراهم من الفلوس (= عملة نحاسية)، فصار غذاؤهم في الغالب الفول المصلوق (= المسلوق) عجزا عن شراء اللحم وغيره”.

    لقد تهاون الظاهر برقوق إذن مع العساكر المماليك بإنزالهم من ثكنات القلعة قبل فترة التخرج من تكوينهم العسكري، واختلاطهم بعامة الناس في القاهرة، والسماح لهم بالتزوج قبل التأهل الحربي المطلوب، وكان هدفه من ذلك تحقيق مصلحته الشخصية السياسية بإبعاد أي توتر أو ثورة داخل مقر الحكم في قلعة الجبل، ولا شك أن برقوق قد نجح في مسعاه؛ إذ استقر عرشه وبقي سُلطانا حتى وفاته في سنة 801هـ/1399م، بل وسلّم السلطنة لابنه غير المؤهل السلطان الناصر فرج.

    كان انتقال الحكم المملوكي إلى السلطان الناصر فرج بن برقوق كارثة كبرى في مسيرة المماليك ودولتهم تواصلت طوال حكمه الذي استغرق 14 سنة؛ فعدا عن تنازله شبه التام عن الصرامة العسكرية والرقابة الإدارية اللازمة لتماسك دعامة الدولة واستمرارها القائمة على “الجلب” أو “الأجلاب”، وهم صغار المماليك “المجلوبون” من جهة القوقاز، لأنهم جراكسة نظرا للعصبية المملوكية، لكن الناصر فرج فوق ذلك صنع أغرب شيء رآه المقريزي!

    لقد تخلى الناصر فرج عن جلب المماليك الصغار في عمر السادسة والسابعة حسبما دأبت عليه دولة المماليك البحرية، بل وقع أسوأ من هذا عندما فرط في معايير التجنيد الصارمة في صفوف الجيش وقوات الأمن، فسمح -حسب المقريزي- بجلب “ملّاح سفينة، ووقادٍ في تنّور خبّاز، ومحوّل ماء في غيط أشجار ونحو ذلك، واستقرّ رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه (= المربي/المعلم) يُتلفهم، بل يُتركون وشؤونهم، فبُدّلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلّا من هو أزنى من قرد، وألصّ من فأرة، وأفسد من ذئب، لا جَرَمَ (= لا عَجَبَ) أن خربت أرض مصر والشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، بسوء إيالة (= سياسة) الحكام، وشدّة عبث الولاة، وسوء تصرّف أولي الأمر، حتى إنه ما من شَهْر [يمرّ] إلّا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه”!!

    بل إن المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي -وهو نجل أحد أمراء المماليك- يرى أن التفريط في معايير التجنيد الصارمة في صفوف الجيش المملوكي -الذي بدأ مع الظاهر برقوق وترسخ في عهد ابنه الناصر فرج- أنتج سلسلة من السلاطين لا اهتمام لهم بالجهاد والإعداد للدفاع عن حوزة البلاد، حتى إنهم لم يُسجَّل لهم قتال في حرب ذات بال طوال قرنهم الأخير؛ فقال -في ‘النجوم الزاهرة‘- مقارنا عهدهم بعهد السلاطين السابقين عليهم في الدولة المملوكية الأولى، وخاصة في أيام المنصور قلاوون:

    “كان بهم (= مماليك قلاوون) منفعة للمسلمين، ومضرة للمشركين، وقيامهم في الغزوات معروف، وشرهم عن الرعية مكفوف. بخلاف زماننا هذا؛ فإنه مع قلّتهم وضعف بنيتهم وعدم شجاعتهم، شرهم في الرعية معروف، ونفعهم عن الناس مكفوف؛ هذا مع عدم التجاريد (= الحملات العسكرية) والتقاء الخوارج (= المهاجمين من الداخل الإسلامي) وقلة الغزوات (= للجوار الأوروبي)، فإنه لم يقع في هذا القرن -وهو القرن التاسع [الهجري/الـ15م]- لقاء مع [عدو] خارجي غير وقعة تيمور (= الإمبراطور المغولي تيمورلنك المتوفى 807هـ/1405م)، وافتضحوا منه غاية الفضيحة، وسلموا البلاد والعباد وتسحّب أكثرهم من غير قتال!

    وأما الغزوات فأعظم ما وقع في هذا القرن فتح قبرص، وكان النصر فيها من الله سبحانه وتعالى: انكسر صاحبها وأخِذ من جماعة يسيرة تلقاهم بعض عساكره؛ خذلان من الله تعالى! وقع ذلك كله قبل وصول غالب عسكر المسلمين! وأما غير ذلك من الغزوات فسفر في البحر ذهابا وإيابا…؛ وهذا شيء معروف لا يُشاحُّ فيه أحد”!!

    ولقد ذاق الناصرُ فرج ما جنته يداه من إهمال المنهج التكويني المعياري للمماليك الذين هم عماد السلطة؛ فقد انقلب عليه أمراؤه في بلاد الشام، وسعى بعضهم إلى الاستقلال عن مركز الدولة في مصر، حتى دخلت البلاد فيما يشبه الحرب الأهلية بين السلطان ومؤيديه، وبين معارضيه ومحاربيه في الشام.

    بالغ المماليك في الفساد والاستهتار وزيادة الضرائب إلى درجة أن بعض المؤرخين فضّلوا حكم الصليبيين على حُكمهم
    (مواقع التواصل الاجتماعي)

    فتن متجددة
    وقد استغل الإمبراطور المغولي تيمورلنك هذه الحروب الأهلية بين الناصر فرج ومعارضيه فقرر احتلال بلاد الشام، ودخلها بادئا بحلب حتى اقتحم دمشق في شعبان 803هـ (يناير/كانون الأول 1401م)، وقد ارتكب فيها إحدى أشد جرائمه وحشية ودموية.

    ففي مصنَّفه التاريخي المعروف بـ«تاريخ ابن حَجّي»؛ يخبرنا المؤرخ الشامي المعاصر لتلك الأحداث شهاب الدين ابن حَجّي (ت 816هـ/1414م) بأن تيمورلنك قد “أباح دمشق ونهب ما بقي فيها، وحرقها فهي تنهب، وأطلقت النار في أرجائها، وأسروا من قدروا عليه…، يمر بالجمع الكثير فيأخذ ما أراد من النساء وغير ذلك، فلم يقدر أحدٌ منهم على دفعه مما حصلَ عندهم من الخوف والجبن”. وقد سجل المقريزي تفاصيل كارثة تيمورلنك -كما سنرى بعضه بعد قليل- ذاهبا إلى أن آثارها المأساوية كانت من أبرز عوامل انهيار الدولة المملوكية وقرب أفولها.

    وأمام هذه الفاجعة الكبرى؛ خاف السلطان والأمراء المماليك على أنفسهم، فانسحب السلطان فرج إلى القاهرة وترك دمشق تواجه مصيرها الأليم، وقد انسحب منها تيمورلنك بعد شهر مخلفا دمارا حضاريا شبيها بما وقع في بغداد قبل ذلك بقرن ونيّف على أيدي أسلافه من التتار، وعاد المماليك سيرتهم الأولى من الحرب والقتال، حتى تمكنوا من خلع فرج وتعيين أخيه عبد العزيز لأشهر قليلة قبل أن يخلعوه.

    لم يجد كبار الأمراء المماليك المعارضين له -مثل أمير طرابلس شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م) الذي لم يلبث أن صار سلطانا، فضلا عن أمير الشام نوروز الحافظي (ت 817هـ/1414م)- سوى الاتحاد لمواجهة هذا السلطان السفيه القاتل، فتم قتله وأُلقي لأيام في مزابل دمشق سنة 815هـ/1412م!! ويكفي أن المقريزي -وكانت له به صلة وثيقة- قد ألقى عليه بالمسؤولية عن الرُّزء الذي نزل بالدولة ورعاياها في تلك السنوات العصيبة، وكان دليلا على جهله وتعطشه للدماء وتسببه في خراب الديار.

    وعن ذلك يقول في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘: “كان الناصر هذا أشأمَ ملوك الإسلام؛ فإنه خرب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، فطرق الطاغية تيمورلنك بلاد الشام في سنة ثلاث وثمانمئة (803هـ/1401م)، وخرب حلب وحماة وبعلبك ودمشق، وحرقها حتى صارت دمشق كوماً ليس بها دار! وقتل من أهل الشام ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وقطع أشجارها حتى لم يبق بدمشق حيوان، ونُقل إليها مِن مصر حتى الكلاب، وخربت أراضي فلسطين بحيث أقامت القدس مدة إذا أُقيمت صلاة الظهر بالمسجد الأقصى لا يصلي خلف الإمام سوى رجلين”!!

    ونظرا للحرب الأهلية التي استمرت منذ وفاة السلطان برقوق في سنة 801هـ/1398م وحتى مقتل الناصر فرج في سنة 815هـ/1412م، وما ترتب على هذه الأحداث من اضطراب هائل في منظومة الحكم كما رأينا؛ فقد اتفق أمراء المماليك على الخروج عن تقليد إسناد منصب “السلطنة” إلى أحدهم، وتعيين الخليفة العباسي نفسه في هذا المنصب؛ فيكون بذلك جامعا بين وظيفتيْ “الخلافة” و”السلطنة” لأول مرة في عصر “الخلافة العباسية” بنسختها المملوكية.

    وبُعيد مقتل السلطان فرج سنة 815هـ/1412م؛ اتفق الجميع على تعيين خليفة عباسي لقّبوه المستعين بالله الثاني (ت 833هـ/1430م) خروجا من أزمة السلطة. وانقسم الحكم يومذاك بين نائب السلطان في الشام نوروز الحافظي (ت 817هـ/1414م)، وقائد الجيش -الذي هو صاحب السلطة الحقيقية بمصر- شيخ بن عبد الله المحمودي (ت 824هـ/1421م).

    وكان الخليفة المستعينُ بين هذين الأميرين كالمحجور عليه عمليا حتى قرر قائد الجيش شيخ المحمودي خلعه من منصب “الخلافة” سنة 815هـ/1412م والحجر عليه رسميا، وإثر ذلك “سيَّرَ [الخليفةَ] المستعينَ إلى الإسكندرية… إلى أن مات بها شهيدًا بالطاعون في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين (833هـ/1430م)”؛ طبقا للإمام السيوطي في ‘تاريخ الخلفاء‘.

    وهكذا دخلت الدولة المملوكية في حرب أهلية جديدة جراء صراع شيخ ونوروز على السلطنة، لكنها لم تطُل هذه المرة؛ إذْ سرعان ما قضى شيخ على خصمه في غضون سنة 817هـ/1415م وانفرد بالحكم، لكن واجهتْه مشكلة أخرى تمثّلت في استغلال أمراء التركمان في جنوبي ووسط الأناضول لاضطرابات المماليك وإعلانهم العصيان والاستقلال، وسنرى أن مشكلة الإمارات التركمانية في جنوب ووسط الأناضول كانت -طوال قرن لاحق وحتى سقوط المماليك- من أهم عوامل ضعفهم ثم انهيارهم، بسبب استنزافها لخزانة الدولة المملوكية.

    لقد أرسل السلطان المؤيّد شيخ المحمودي ابنه الأمير صارم الدين إبراهيم (ت 823هـ/1420م) مرارا على رأس حملات عسكرية إلى الأناضول لقمع أمير “إمارة دلغادر” (ذو القدر)، التي كانت تعدّ أقوى الإمارات التركية التي قامت على أنقاض الدولة السلجوقية في الأناضول: ناصر الدين محمد بن دلغادر (ت 846هـ/1442م).

    ففي سنة 820هـ/1417م؛ حاصر المماليك بقيادة الأمير صارم الدين “أَبُلُسْتَيْن (= البستان: مدينة تركية شمالي محافظة مرعش) وقد فرّ منها ابن دلغادر، وأخلى البلاد من سكانها”؛ وفقا للمؤرخ ابن تَغْري بَرْدي في كتابه ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‘.

    وفي سنة 822هـ/1419م بلغت قوات المماليك -بقيادة صارم الدين إبراهيم نجل السلطان- وسط الأناضول، حتى إنها تمكنت من الاستيلاء على مدينة قيصارية/قيسارية “فحضر إليه أكابر البلد من القضاة والمشايخ والصّوفيّة، فتلقّوه فألبسهم الخِلَع (= ثياب تشريفية)، وطلع قلعتها يوم الجمعة، وخطب في جوامعها للسلطان، وضُربت السّكة (= العملة النقدية) باسمه، وأنّ شيخ جلبى (ت بعد 822هـ/1419م) نائب قيسارية تسحّب (= انسحب) منها قبل وصول العساكر إليها، وأن [الأمير صارم الدين] ابنَ السلطان خلع على محمد بك بن قرمان (ت 828هـ/1425م) وأقرّه في نيابة السلطنة بقيسارية، فدقت البشائر بقلعة الجبل (= مقر السلطان بالقاهرة) لذلك، وفرح السلطان بأخذ قيسارية فرحا عظيما؛ فإن هذا شيء لم يتّفق لملك من ملوك التّرك بالديار المصرية سوى الملك الظاهر بيبرس”؛ طبقا لابن تَغْري بَرْدي.

    لكننا سنرى أن الصراع المملوكي التركماني في جنوبي ووسط الأناضول تجدد مع معظم السلاطين اللاحقين حتى نهاية دولة المماليك، وقد أدت الدورات المتعاقبة لهذا الصراع إلى استنزاف الخزانة المملوكية، وأصبح -مع عدة عوامل أخرى- من أهم أسباب سقوط دولتهم.

    بعد انتصار المماليك على المغول في معركة عين جالوت بشمال فلسطين سنة 1260م، تولى المماليك حكم سوريا، وشنوا حملات عقابية ضد كل من العلويين والدروز والشيعة الاثني عشرية
    (مواقع التواصل الاجتماعي)

    حروب وراثة
    بعد عودته من حملته المظفرة في جنوبي الأناضول؛ سرعان ما توفي الأمير صارم الدين إبراهيم مقتولا بالسم -على أرجح الروايات- في سنة 823هـ/1420م، ثم تبع ذلك موت والده السلطان المؤيد شيخ في السنة التالية 824هـ/1421م، ففتحت تلك التطورات الطريق مجددا على مشكلة تعيين السلطان الجديد.

    وهي مشكلة يقودنا أمرها إلى الإلمام بالآثار الخطيرة لظاهرة محاولات توريث السلطة لأبناء السلاطين، سواء بمبادرة من مماليكهم الأمراء أو برغبة من السلاطين أنفسهم، ففي كلتا الحالتين كانت هذه الظاهرة -التي هي نوع خاص من صراعات العرش التي تطرقنا لها سابقا- أحدَ العوامل المؤجِّجة للصراعات البينية على عرش الدولة المملوكية، خاصة بعد أن استفحلت هذه الظاهرة منذ مطلع القرن التاسع الهجري/الـ15م.

    لقد أثّرت هذه الظاهرة في البنية السياسية لدولة المماليك فوق الصراعات العصبية المملوكية، ولاسيما عندما تراجع الولاء للدولة لصالح عصبية الولاء الشخصي للسلطان والأمير “السيد” بعد أن صارت “الجنسية (= القومية) علّة الضم (= الولاء)”؛ حسب تعبير الإمام العَيْني الذي حلل هذه الظاهرة العصبية في كتابه ‘عِقد الجمان‘.

    فمع كل تولية لأحد أبناء السلاطين كانت تندلع اضطرابات تستمر أشهرا -وربما سنوات- بين رجال السلطان الراحل ورجال نظرائه من القادة الطامحين لتولي السلطة مكانه، وكانت تصاحب تلك الاضطراباتِ موجاتُ قتلٍ وانهيار اقتصادي، على النحو الذي صوره لنا المقريزي بقوله -في كتابه ‘السلوك لمعرفة الملوك‘- متحدثا عن لحظة انطلاق الشائعات بوفاة السلطان المؤيد شيخ المحمودي سنة 824هـ/1421م:

    “هذا والناس في القاهرة على تخوُّفِ وقوعِ الفتنة بموت السلطان، وقد كثر عبث المفسدين وقطاع الطريق ببلاد الصعيد، وفَحُش قتْل الأنفس وأخْذ الأموال هناك. ومع ذلك فالأسواق كاسدة والبضائع بأيدي التجار بائرة، والأحوال واقفة، والشكاية قد عمَّت فلا تجد إلا شاكيا وقوفَ حاله وقلة مكسبه، وجور الولاة والحكام وأتباعهم متزايد؛ فنسأل الله حسن العاقبة”!!

    وغالبا ما تنتهي تلك الاضطرابات بخلع وسجن خليفة السلطان المنصَّب من بين أبنائه، ثم اعتلاء الأقوى من الأمراء الذي غالبا ما كان قائد الجيش أو من يليه من كبار الأمراء ذوي لقب “أمير مئة مقدّم ألف”؛ ذلك أن المماليك ساروا على درب أسيادهم الأيوبيين فكان لكل سلطان مماليكه الخواصّ الذين أطلقت عليهم المصادر المملوكية “المماليك السُّلطانية”، وهم الجيش الشخصي للسلطان وحرسه الخاص، ولهم نفوذهم وقوتهم في مفاصل الدولة، وقد بلغ عدد مماليك السلطان المؤيد شيخ وحده خمسة آلاف مملوك!

    وكان أهم رجال الطبقة الحاكمة العليا هم كبار الأمراء ممن يحملون رُتبة “أمير مئة مقدَّم ألف”؛ حتى إنه كان شائعا في أوساط أجنحة السلطة أنه “ما يصلح للوزارة إلا واحد من مماليك مولانا السلطان يكون ‘أمير مئة مقدم ألف‘”؛ وفقا للمؤرخ ابن أيْبَك الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘أعيان العصر وأعوان النصر‘.

    فمثلا إثر وفاة السلطان الظاهر برقوق تولى ابنه الناصر فرج السلطة فأفسد البلاد ثم قُتل؛ فجاء مكانه المؤيد شيخ الذي تولى ابنه الصالح محمد فخلعه الظاهر طَطَر/تَتَر (ت 824هـ/1421م)، ثم المظفر أحمد بن الظاهر طَطَر الذي خلعه الأشرف بَرْسْبَاي. ثم جاء العزيز يوسف بن بَرْسْبَاي (ت 868هـ/1463م) الذي وصفه السيوطي -في ‘نظم العِقْيان في أعيان الأعيان‘- بأنه “نظر في فنون العلم والأدب” فخلعه الظاهر أبو سعيد جَقْمَق العلائي (ت 857هـ/1453م).

    وإثر وفاة جَقْمَق تولى السلطنة المنصور عثمان (ت 892هـ/1487م) الذي خلعه الأشرف إينال (ت 865هـ/1461م) ليتولى العرش، قبل أن يعهد بالسلطنة إلى ابنه المؤيد شهاب الدين أحمد (ت 893هـ/1488م) الذي خلعه السلطان الظاهر خُشْقَدم (ت 872هـ/1467م) رغم أن المؤيد هذا لما اعتلى العرش “سُرَّ الناسُ بسلطنته قاطبة، وأمِنَتْ السُّبُلُ في أيامه، واطمأن كل أحد على نفسه وماله”؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘. ثم تولى الحكم -بعد وفاة خُشْقَدم- سلطانان ضعيفان قبل أن يتسلّمه أعظم وأطول سلاطين الجراكسة عمرا، ألا وهو السلطان الأشرف قايْتْباي (ت 901هـ/1495م) الذي ظل في سلطنته 29 سنة وأشهرًا.

    وبعد وفاة الأشرف قايْتْباي سنرى انهيارًا سريعا في دولة المماليك؛ ففي غضون خمس سنوات تولى عرشَ الحكم المملوكي ستةُ سلاطين، كل منهم كان شريكا بصورة أو أخرى في قتل من سبقه بمن فيهم السلطان الناصر محمد بن قايْتْباي (ت 904هـ/1498م)، قبل أن يرتقي العرشَ آخرُ سلطانين وهما الأشرف قانْصُوه الغُوري (ت 922هـ/1516م)، ثم ابن أخيه السلطان الأخير للدولة المملوكية الأشرف طُومان باي (ت 923هـ/1517م) الذي أعدمه السلطان العثماني سليم الأول (ت 926هـ/1520م) على باب زُويلة جنوبي القاهرة، لتُطوى بذلك صفحة دولة المماليك.

    Majestic mausoleum chamber and mihrab inside Mosque-Madrassa of Sultan Hassan in old Cairo, Egypt, a UNESCO heritage site مماليك - تراث
    (غيتي إيميجز)

    سلطة تغالب
    لقد آثرنا أن نستعرض هذا النمط من التعيين والعزل وسرعة الانقلابات العسكرية في دولة المماليك الجراكسة، لنرى أن هذه الدولة التي استمرت مدة 139 سنة تولى فيها السلطنة خمسة وعشرين سلطانًا، لم يبرز منهم إلا تسعة فقط حكموا مدة 130 سنة، هم: الظاهر برقوق وابنه الناصر فرج بن برقوق، والمؤيَّد شيخ والأشرف برسباي، والظاهر جَقْمَق والأشرف إينال، والظاهر خُشْقَدم والأشرف قايْتْباي والأشرف قانْصُوه الغُوري.

    أما الآخرون -وهم ستة عشر سلطانًا- فلم يحكموا سوى تسع سنوات فقط من عمر الدولة، في تعاقب على السلطة سريع ومريع يبرهن على التردي الأمني والسياسي الذي أصيبت به هذه الدولة في كثير من فترات عُمرها.

    حتى إننا نجد المؤرخ جمال الدين بن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- يضع لسنة 824هـ/1421م عنوانا مستقلا في تاريخه جاء فيه: “السنة التي حكم فيها أربعة سلاطين: وهي سنة أربع وعشرين وثمانمئة (824هـ/1421م)؛ حكم في أوّلها إلى يوم الاثنين ثامن المحرّم الملك المؤيدّ شيخ، ثم ابنه الملك المظفّر أحمد إلى تاسع عشرين شعبان، ثمّ الملك الظاهر طَطَر إلى رابع ذي الحجة، ثمّ ابنه الملك الصالح محمد إلى آخرها وإلى شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين وثمانمئة (825هـ/1422م)”.

    ولئن كانت ظاهرة تولية الأطفال من أبناء السلاطين الراحلين عرشَ السلطنة قد عرفتها الدولة المملوكية الأولى، كما مرَّ معنا في قصة تعيين الطفل كُجُك ابن الناصر قلاوون سلطانا، وهو مثال واحد من أمثلة عدة تشمل إخوتَه وغيرَه؛ فإن هذه أخذت وتيرة متكررة في الدولة المملوكية الثانية، بحيث صارت شبه تقليد لازم عند موت أي سلطان سواء تم ذلك بأن يَعهد بالسلطنة لأحد أبنائه الصغار من بعده، أو بأن تتعصَّب المماليك السلطانية لابن سلطانهم المتوفّى فيولونه في مكانه حفاظا على مصالحهم ونفوذهم.

    فقد اتفق رجال نخبة “المماليك السُّلطانية” على سلطنة المظفر أحمد بن المؤيَّد شيخ (ت 833هـ/1430م) بعد وفاة والده السلطان، وكان طفلا بالغ الصغر؛ حتى إن رواية المؤرخ المملوكي ابن شاهين المَلَطي الظاهري (ت 920هـ/1514م) -في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- تكشفُ أنه لما جاء الأمراء إلى هذا الطفل الصغير ليُجلسوه على “سرير الملك” أو كرسي السلطنة كان يبكي لكونه طفلا لا يعقل ما يُراد منه! وعند مبايعته سلطانا “أجلِس المظفّر أحمد والأمراء حوله، وقد أقيمت الخدمة بالقصر، فلما انقضت الخدمة أُعيد إلى أمّه”!!

    وقاد استمرار هذه الظاهرة -معظم القرن التاسع الهجري/الـ15م- إلى اشتعال الصراع بين كبار أمراء الدولة والجيش، وكان عددهم يبلغ في العادة ما بين 18 و24 أميرا كبيرا مقدَّما، وغالبا ما كان أقواهم “أتابك العسكر” أو قائد الجيش، ثم “أمير سلاح” (قائد الأسلحة)، وأمير مجلس (مدير تشريفات البلاط)، والدَّوَادار (سكرتير السلطان)، وأمثالهم.

    وفي حالة الطفل المظفر ابن السلطان المؤيد شيخ؛ شكّل قادة الأمراء مجلسًا للوصاية يتولى تسيير شؤون السلطنة، لكن هذا المجلس شهد صراعا بين ثلاثة من كبار الأمراء، سرعان ما أنهاه لصالحه الأميرُ طَطَر/تَتَر (ت 824هـ/1421م) فتسلطن وتلقب بـ”الظاهر”، إلا أنه لم يهنأ بالسلطنة إلا أربعة وتسعين يومًا فقط، لكنه “في هذه المدة اليسيرة لا تستقلّ ما فعله من الانتقام والجور وسفك الدماء، فأتعبَ نفسه، ومهّدَ لغيره”؛ حسب ابن تَغْري بَرْدي في ‘المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي‘.

    وقد وقَع طَطَر فيما وقع فيه السلاطين السابقون؛ فأوصى قُبيل وفاته بالسلطنة لولده الصغير: الصالح ناصر الدين محمد بن طَطَر (ت 833هـ/1430م)، وقد أُجبِر على تشكيل مجلس وصاية يُسيّر شؤون السلطنة فيه كل من: الأمير جانبك الصوفي (ت 841هـ/1437م) قائد الجيش ومدبّر الدولة، والأمير بَرْسْباي الدُّقْماقي (ت 841هـ/1437م) الذي كان حينها كاتبا للسلطان ثم صار سلطانا بعدها بقليل، والأمير طَرَباي/طَرَاباي (ت بعد 824هـ/1421م) الذي كان “حاجب الحُجّاب” أي مدير ديوان السلطان، وكان يعدّ نفسه “من يوم مات الملك الظاهر برقوق متميّزا على بَرْسْبَاي، ويرى أنه هو الأكبر والأعظم في النّفوس”؛ طبقا لابن تَغْري بَرْدي في ‘النجم الزاهرة‘.

    وسرعان ما انخرط هذا الثلاثي في صراع دموي على العرش كعادة من سبقهم من السلاطين، حتى قضى برسباي -بمساعدة عظيمة من طَرَباي- على جانْبَك الصوفي حين اعتقله، أما طَرَباي فقد أوقعه بَرْسْبَاي في فخ في القلعة انتهى بمقتله، وذلك بعد أن استدعاه بحجة التشاور في أمر عاجل متعلق بمسألة دولة تركمان “قره قويونلو” (ذوو الخِراف السود) الشيعية.

    ويصف لنا الإمام ابن حجر العسقلاني -في ‘إنباء الغمر بأنباء العُمر‘- اللحظات الأخيرة من حياة الأمير طرباي؛ فيقول: “قال بَرْسْبَاي لطَرَباي: أنتم ما تعرفون أني كبير الأمراء؟! قال: نعم، قال: فلمَ تخالفون أمري؟ وأشار بالقبض على طرباي، فقام فجذب السيف فحمى نفسه، فهجم عليه قَصْرُوه (= قَصْرُوه من تمراز الظاهري المتوفى 838هـ/1434م) أمير آخور (= أمير الإسطبلات) فناوشه، فضربه برسباي من خلفه فجرح يده فسقط منها السيف فأمسِك، وأمسِك معه أميران من جهته، وأرسِلوا إلى الإسكندرية فاعتُقلوا بها”.

    ولم تمرّ سوى أسابيع قليلة على هذه الحادثة -التي وقعت في ربيع الأول سنة 825هـ/1422م- حتى ارتقى الأشرف بَرْسْبَاي إلى سلطنة المماليك في الشهر التالي على انقلابه الدموي هذا، بعدما قضى على خصومه؛ لتبدأ سلطنته التي استمرت حتى نهاية سنة 841هـ/1437م.

    UNSPECIFIED - SEPTEMBER 14: Armour in steel, gold, brass, chain mail, leather and fabric, Persian manufacturing, 18th-19th century. Florence, Museo Stibbert (Art Museum) (Photo by DeAgostini/Getty Images) مماليك
    (غيتي إيميجز)

    نقطة تحوُّل
    لقد جمعت سلطنة الأشرف بَرْسْبَاي عدة متناقضات فكانت أفضل مما سبقها في أمور وأسوأ منها في أخرى، لكنها شكلت محطة فارقة على منحنى انحدار الدولة المملوكية الذي ظل يتعمق حتى لحظة سقوطها النهائي؛ وهو ما يستلزم التطرقَ لعهده ببعض التفاصيل كشفا لأهم الجذور البعيدة لذلك السقوط المدوي.

    فقد كان من أبرز الإنجازات العسكرية للأشرف برسباي أنه “فُتحت في أيامه عدة فتوحات، وجهز العساكر إلى أخذ قبرس (قبرص) في سنة ثمان وعشرين (828هـ/1425م)”؛ كما في ‘المنهل الصافي‘ لابن تَغْري بَرْدي. ولئن نجح برسباي في الاستيلاء -الذي سبق الإلمام ببعض تفاصيله- على جزيرة قبرص التي أصبحت تابعة سياسيا للمماليك في القاهرة حتى سقوط دولتهم؛ فقد واجه تحديات أخرى عملت على خلخلة الأوضاع الاقتصادية والأمنية.

    وأول هذه التحديات الكبيرة كان هروب “أتابك العساكر” (قائد الجيش) السابق الأمير جانبك الصوفي -وهو العدو اللدود للسلطان برسباي- من سجنه إلى إمارة عائلة دلغادر (ذو القدر) التركمانية في جنوب وسط الأناضول، حيث احتضنوه ودعموه طوال اثنتي عشرة سنة.

    والتحدي الثاني هو ظهور التنافس العسكري والسياسي لدولة قبيلة “قره قويونلو” (ذوو الخِراف السود) وهي دولة تركمانية شيعية، نشأت في شرق الأناضول وأجزاء من العراق وشمال إيران وجنوب القوقاز بُعيد الانسحاب المغولي التيموري من المنطقة، وقد مثّلت تهديدا لدولة المماليك في هذه الفترة لاسيما في مناطق ديار بكر وآمِد الواقعتين اليوم في جنوب شرقي تركيا.

    وقد أرسل برسباي عدة حملات عسكرية لتأديب حكام كل من “إمارة دلغادر” (ذو القدر) ودولة قبيلة “آق قويونلو” (ذوو الخِراف البِيض) التركمانية في جنوبي الأناضول، حتى إنه خرج بنفسه في سنة 836هـ/1432م لحصار آمد بهدف القضاء على الأمير عثمان بن قرايلك (ت 839هـ/1435م) المؤسس الحقيقي لهذه الإمارة، وقد استمر حصاره هذا خمسة وثلاثين يوما، واختلفت عساكره عليه.

    ويمدنا ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- برواية مفصّلة عن حصار برسباي لآمد -الذي يبدو أنه كان ضمن من رافقوا السلطان فيه- وندمِه على الخروج من القاهرة، رغم أن حملته هذه على ابن قرايلك لم تنتهِ حتى “تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرايلك يقبّل الأرض للسلطان، ويخطب باسمه في بلاده، ويضرب السكة على الدينار والدرهم باسمه”.

    ورغم النجاح الظاهري لهذه الحملة العسكرية المملوكية المتمثل في إقرار الأمير قرايلك بالتبعية لسلطان المماليك؛ فإن المؤرخ المملوكي داود بن علي الصيرفي (ت 900هـ/1494م) يقدم -في ‘نزهة النفوس والأبدان في حوادث الزمان‘- تقييما لها في غاية السلبية، فيخبرنا بأنه:

    “عُدّتْ هذه السفرة من أشنع ما يكون لزيادة ضررها وعدم نفعها، ولما أتلفه السلطان من المال بسببها، حتى إن المال النقد الذي أُنفق فيها من الخزائن الشريفة مبلغه خمسمئة ألف دينار (= اليوم 100 مليون دولار أميركي تقريبا)، وتلف له من الخيل والسلاح والجمال وغير ذلك ما يكون نظير المال المذكور، وتلف للأمراء والعساكر بمصر والشام ما يبلغ قيمته مئات قناطير من الذهب”!! وهذه التكاليف المذكورة جميعها تقدّر اليوم بما يناهز ملياريْ دولار، وهو مبلغ كبير للغاية لاسيما بمقاييس ذلك العصر، وقد أثر بلا شك على الأوضاع الاقتصادية للبلاد فيما بعد.

    ولكن الأخطر من ذلك ما شهده العصر الشركسي -وخاصة في أيام برسباي- من انحلال للانضباط العسكري، الذي طالما ميز الشخصية العسكرية المملوكية ومنحها النصر الحاسم في معاركها الفاصلة؛ فضاعف سلبيات ضعف تكوين هذه الشخصية الذي تولد عن اختلال المنهجية الصارمة في تأهيلها العسكري والثقافي والأخلاقي، كما سبق وصفه.

    وقد تجلى انحلال الانضباط العسكري المملوكي في ظاهرةِ مخالفةِ بعض أكابر الأمراء للسلاطين في القضايا المفصلية الكبرى، ولاسيما خلال الحملات العسكرية التي تستلزم انضباطا كاملا وصرامة لا تلين، ولعل تراتبية الجيش المملوكي -التي قامت على العصبيات العرقية ثم الولاء الشخصي للسلاطين- هي التي أدت إلى هذه الاضطرابات المتوالية.

    فكبار أمراء ومماليك السلاطين السابقين كانوا يُعرَفون بـ”القرانيص” أي: المحاربون القدماء، وأمراء ومماليك السلاطين المتأخرين (سلاطين القرن التاسع الهجري/الـ15م وما بعده) كان يُطلق عليهم “الأجلاب” و”المماليك السلطانية”، ومماليك الأمراء كانوا يسمون بـ”السيفية”.

    و”القرانيص” كانوا ينقسمون بحسب السلاطين الذين يتبعون لهم؛ فـ”الظاهرية” هم مماليك السلطان الظاهر برقوق، و”الناصرية” هم مماليك ابنه الناصر فرج، و”المؤيّدية” هم مماليك السلطان المؤيد شيخ، و”الأشرفية” هم مماليك الأشرف برسباي، وقد كان الانتماء إلى الزمالة والعصبية -فوق الدولة وأمنها واستقرارها- هو السبب في هذا الانهيار الأمني الداخلي.

    ولئن حاول برسباي الحفاظ على مكانته وسلطنته من خلال المبالغة في حماية مماليكه “الأجلاب” -أو “المشتروات” كما كانوا يسمَّون- وهم الحرس السلطاني الخاص وقلب الجيش المملوكي، وأقوى وحداته تسليحا ومكانة؛ فإن سياسة التدليل تلك كانت لها عواقبها الوخيمة في عصره فضلا عن العصور التي تلته.

    لقد رأينا -فيما نقلناه سابقا عن المقريزي- ضعف تأهيل المماليك العسكري والتربوي منذ عصر السلطان الظاهر برقوق مؤسس دولة المماليك الجراكسة، ولهذا السبب كثيرا ما ثار هؤلاء الأجلاب على كبار رجال الدولة وتعدَّوْا عليهم دون رادع.

    فابن تَغْري بَرْدي يخبرنا -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في ربيع الأول من سنة 838هـ/1434م “ثارت مماليك السلطان الأجلاب، سكّان الطّباق (= الثكنات العسكرية) بقلعة الجبل، وطلبوا القبض على مُباشري الدولة (= كبار موظفي الإدارة كالوزير ومدير المالية) بسبب تأخر جوامكهم (= رواتبهم الشهرية)، ففرّ المباشرون منهم ونزلوا إلى بيوتهم، فنزل في أثرهم جمع كبير منهم”، ونهبوا بيوت هؤلاء الموظفين، وأغلِقت الأسواق في القاهرة خوفا من فسادهم!

    ويعلق ابن تَغْري بَرْدي على هذه الحادثة قائلا: “والعجب أن السلطان [برسباي] لم يغضب لعبد الباسط [بن خليل الدمشقي (ت 854هـ/1450م) ناظر الجيش (= قائد الأركان)] بل انحرف عليه، وأمر بنفيه إلى الإسكندرية لكسر الشر، ولم يقع منه في حق مماليكه المذكورين أمر من الأمور، إما لمحبته فيهم، أو لبغضه في عبد الباسط”.

    ولقد أدى تعاقب هؤلاء السلاطين جميعا ومن يليهم -حتى سقوط دولة المماليك- إلى نشوب صراع لم يفتر على الزعامة والمكانة في بنية الدولة المملوكية، وقد حرص السلاطين على حماية مماليكهم “الأجلاب” عند الغزو والغارة، وهي الحماية التي كانت تثير حنق المماليك الآخرين لاسيما “القرانيص” و”السيفية” وباقي “أجناد الحلقة” (الجيش المملوكي النظامي).

    ومن الأمثلة على تلك الحماية وتبعاتها السلبية ما حصل في حصار آمد حين خاطب برسباي قادة جيشه قائلا: “يكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليكُ القرانيص، وأنا ومماليكي الأجلابُ نكون خلفهم. وقامت قيامة القوم، وتنكّرت القلوب على السلطان في الباطن” بسبب هذا الموقف؛ كما يذكر ابن تَغْري بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

    وقد ازداد خطر دولة الآق قويونلو في جنوب شرق الأناضول على ممتلكات ومدن المماليك في تلك المناطق، ولاسيما ملطية ومرعش وكختا وكركر وغيرها، واضطر برسباي إلى تجريد الحملات العسكرية تلو الأخرى، حتى خرجت الحملة الأخيرة في مرض وفاته سنة 841هـ/1437م، وقد اشتد عليه المرض فمات بعدما أعدَم طبيبيْن له قتلا بالسيف لعجزهما عن علاجه، وهذا ينمّ عن جهله وعاميته؛ حسب المؤرخ شهاب الدين ابن عربشاه الدمشقي (ت 854هـ/1450م) في ‘التأليف الطاهر في سيرة الملك الظاهر جَقْمَق‘.

    بل إنه ظهرت بجوار دولة “آق قويونلو” (ذوو الخِراف البِيض) دولةُ بني عمومتهم “قره قويونلو” (ذوو الخِراف السود) الشيعية، والتي نشأت -بزعامة قرا يوسف التركماني (ت 823هـ/1420م)- عقب سقوط الإيلخانيين والتيموريين في العراق وأذربيجان وشرق الأناضول.

    وبالتدريج شكّلت هذه الدولة الشيعية خطرا وجوديا على المماليك أشدَّ من دولة “آق قويونلو” (ذوو الخِراف البِيض) السنية؛ فقد راح ولاتُها في شرق الأناضول والعراق يتعدون على العباد والبلاد بالمظالم المتنوعة، حتى حكم فقهاء دولة المماليك بكفرهم وضرورة قتالهم، وقد رأى ابن تَغْري بَرْدي “بدر الدين حسن البُرْدِينى (ت 831هـ/1428م) أحد نوّاب الحُكم (= نائب قاضي القُضاة) الشافعية، وهو راكب على بغلته [في شوارع القاهرة] وبيده ورقة يقرأ منها استنفار الناس لقتال قرا يوسف، وتعداد قبائحه ومساوئه”!!
    اختلال إداري
    ألقت أزمة الاضطراب السياسي والصراعات الدامية على عرش الدولة المملوكية الثانية (784-923هـ/1382-1517م) بظلالها على مؤسسات الدولة المدنية الحيوية، فتفشّت فيها عوامل الاختلال الإداري الذي عصف بما كانت عليه من كفاءة وفعالية في عهد الازدهار، وكان من أخطر أمارات هذا الاختلال ذلك التهميش الذي نال منصب الوزارة، والذي يبدو أنه كان ثمرة منطقية للتخلي عن المنهج التكويني المعياري للمماليك أنفسهم الذين هم عماد السلطة بأكملها تأسيسا وتسييرا.

    وقد بلغ ذلك التهميش مستوى جعل المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي يأمل أن يزول منصب “الوزارة” (رئاسة الوزراء) من مؤسسات الدولة، لما آل إليه أمره من ضعف وضياع؛ فهو يرى -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه “لو مَنّ الله سبحانه وتعالى بأن يَبطُل اسم «الوزير» من الديار المصرية في هذا الزمان.. لكان ذلك أجود وأجمل بالدولة..، لأن.. [هذه الوظيفة].. تنازلت [عنها] ملوك مصر في أواخر القرن الثامن [الهجري/الـ14م] حتى وليها في أيامهم أوباشُ الناس وأسافلُ الكَتَبَة..، وذهبـ[ـت] بهم أبّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلام -بعد الخلافة- أجلُّ منها ولا أعظمُ”!!

    ويبدو أن أمله الساخر هذا لم يتحقق بدليل ما سجله -في آخر حياته- من أن الوزارة هي “أرفع الوظائف قدرا في سائر بلاد الله، وفي كل قطر من الأقطار إلا الديار المصرية فإنه انحط بها قدرها، ووليها من الأوباش وصغار الكتبة جماعة من أوائل القرن التاسع [الهجري/الـ15م] إلى يومنا هذا”!!

    ثم يذكر ابن تَغْري بَرْدي وقائع تعيين خمسة رؤساء وزراء، صدر قرار تولية أحدهم في أوائل سنة 868هـ/1463م رغم أنه “كان أحد الأعوام الأوباش الأطراف السوقة”، ولذلك كان صفر اليدين من الخبرة الإدارية التي تؤهله لهذا المنصب العظيم لأنه “لم يتقدم له نوع من أنواع الرئاسة، ومع هذه المساوئ باشر بظلم وعَسْف، وعدم حشمة وقلة أدب مع الأكابر والأعيان، وساءت سيرته وكثر الدعاء عليه إلى أن أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وأراح الله المسلمين منه؛ وقد هجاه الشعراء بأهاجٍ كثيرة”!!

    ويبدو أن تهميش منصب الوزارة كان نتيجة طبيعية للإهمال الإداري الذي شهدته الدولة المملوكية -في القرن السابق- على مستوى منصب السلطنة نفسها، ولاحظه عدد من العلماء قدّموا كُتُبا تضمنت مشاريع إصلاحية للدولة المملوكية، كان من بينهم الإمام تاج الدين السبكي الذي عايش نهاية الدولة المملوكية الأولى، وسجل بوضوح -في كتابه ‘مُعيد النعم ومُبيد النقم‘- ذلك الإهمال الإداري قائلا إن من مظاهر جحود نعمة رئاسة المسلمين أن يظن السلطان أن الولاية هي أن يكون “آكلا شاربا مستريحا”، وهو إنما تولى أمر المسلمين “لينصر الدين ويُعلي الكلمة”!

    وكان من آثار ذلك الإهمال اختلال سلم الأولويات وفقا للسبكي؛ فقد انتقد أن “يفرِّق [السلطان] الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس، والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، ويترك الذين ينفعون الإسلام جياعا في بيوتهم”!! كما انتقد أن “يفرق [السلطان] الإقطاعات على مماليك اصطفاها وزينها بأنواع الملابس، والزراكش المحرمة، وافتخر بركوبها بين يديه، ويترك الذين ينفعون الإسلام جياعا في بيوتهم”!!

    ورفض السبكي بشدة سلوك البذخ في بناء المساجد الكبرى وهو إحدى سمات العصر المملوكي، خصوصا تلك التي كانت تشيَّد بعائدات الضرائب الظالمة ونهب أموال الرعية، فنجده يخاطب الحاكم بقوله: “تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا، ليقال: هذا جامع فلان؟! فلا والله لن يتقبله الله تعالى أبدا، وإن الله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا”!!

    وفي حقبة لاحقة من الدولة المملوكية؛ تحدث المؤرخ المصري ابن إياس -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- عن ذلك السلوك الجائر، وموقف العلماء من بعض المساجد التي بُنيت بأموال الشعب المغتصبة من أجل التدليس على الناس، وقال إن المصريين “اللطفاء” أطلقوا على مدرسة/مسجد بناه السلطان قانْصُوه الغوري بأموال الضرائب الظالمة اسم “المسجد الحرام”!!

    ووصل الإهمال أيضا إلى مرافقة حيوية مثل مؤسسة الحِسبة، حتى إنه -منذ مطلع القرن التاسع الهجري/الـ15م- انحسم موقع الحسبة في الدولة المملوكية لتغدو وظيفة يتولاها الجند والمماليك بعد أن كانت إحدى “الوظائف الدينية” المركزية التي لا يتولاها إلا كبار الفقهاء والقضاة، فتحولت بذلك إلى وضعية صارت بها أقرب إلى الوظيفة الأمنية والبلدية.

    وأول أمير مملوكي تولى إدارة مؤسسة الحسبة هو منكلي بُغا العجمي (ت 836هـ/1413م)، وكان ذلك سنة 816هـ/1413م؛ حسب المَلَطي في ‘نيل الأمل‘. ويفيدنا ابن حجر العسقلاني -في كتابه ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمر‘- بأن منكلي بغا “يقال إنه أول من أضيفت له وظيفة الحسبة من التُّرْك (= المماليك)”! أما الإمام جلال الدين السيوطي فقد جزم بذلك -في كتابه ‘تاريخ الخلفاء‘- فقال إن منكلي بغا “أول من ولي الحسبة من الأتراك في الدنيا”!!

    ويتحدث المقريزي -في ‘السلوك‘- واصفا تفشي الفساد في مؤسستيْ الحسبة والقضاء، وهو الخبير بدهاليزهما؛ فيقول إنه كان “كلُّ ما يكسبه الباعة -مما تغش به البضائع وما تغبن فيه الناس في البيع- يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبيْ القاهرة ومصر وأعوانهما، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السُّحْت في ملاذهم المنهي عنها، ويؤديان منه ما استداناه من المال الذي دُفع رشوة عند ولاياتهما، ويؤخران منه باقيه لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهما في بقائهما!

    وأما القضاة (= قضاة القضاة للمذاهب الفقهية الأربعة) فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المئتين، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم، مع ما يأتون -هم وكُتّابهم وأعوانهم- من المنكرات بما لم يُسمع بمثله فيما سلف، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم، ولا يغرم أحد منهم شيئا للسلطنة بل يتوفر عليهم، فهم يَتخوَّلون (= يتصرفون) في مال الله تعالى بغير حق ويحسبون أنهم على شيء، بل يصرحون بأنهم أهل الله وخاصته افتراءً على الله سبحانه”!!

    ولعل من مظاهر تدهور مؤسسة القضاء في العصر المملوكي المتأخر ما ذكره القلقشندي من أن لقب «القاضي» فَقَدَ دلالته الأصلية في المعجم الوظيفي؛ فقال إن “كُتّاب الزمان يُطلقون هذا اللقب -والألقاب المتفرّعة منه كالقضائيّ والقاضويّ- على «أرباب الأقلام» في الجملة، سواء كان صاحب اللّقب متصدّيا لهذه الوظيفة أو غيرها، كسائر العلماء والكتّاب ومن في معناهم، وعلى ذلك عُرْفُ العامّة أيضا”!!

    ويمكن القول إن الفساد الإداري كان سمة لازمة للدولة المملوكية البرجية منذ نشأتها، إذا اعتمدنا الحكم الذي قدمه المقريزي -في ‘السلوك‘- بقوله إنه منذ أحكم الأمير برقوق خيوط نفوذه في دواليب الدولة تدهورت معايير اعتبار الأمانة والكفاءة في كبار الموظفين، وصارت “الولايات كلها من القضاء والحسبة وولاية الحرب -في الأعمال والكشف وسائر الوظائف- لا سبيل أن ينالها أحد إلا بمال يقوم به أو بأدائه، ويكتب به خطَّه؛ فتطاول كل نذل رذل وسفلة إلى ما سنح بخاطره عن الأعمال الجليلة والرتب العلية، فدُهِي الناسُ من ذلك بِداهيةٍ دَهْياءَ أوجبت خراب مصر والشام”!!

    ويحلل المقريزي -في ‘إغاثة الأمة‘- مآلات الاختلال المعياري في إجراءات التعيين الإداري في عهد برقوق، وتأثير ذلك على الأوضاع الأمنية وفعالية الإدارة العامة في البلاد؛ فيقول: “وانسحب الأمر في ولاية الأعمال بالرشوة إلى أن مات الظاهر برقوق، فحدث لموته اختلاف بين أهل الدول إلى تنازع وحروب…؛ فاقتضى الحال -من أجل ذلك- ثورة أهل الريف وانتشار الزعَّار (= عصابات اللصوص) وقُطّاع الطريق، فخِيفتْ السبل، وتعذر الوصول إلى البلاد إلا بركوب الخطر العظيم، وتزايدت غباوة أهل الدولة، وأعرضوا عن مصالح العباد، وانهمكوا في اللذات”!!

    انهيار اقتصادي
    رافقت الاضطرابَ السياسي والاختلال الإداري الذي عصف برسوخ العرش المملوكي أزماتٌ اقتصادية هائلة ومتتابعة، فصَّل القولَ في أسبابها وتجلياتها وتداعياتها -في العديد من مؤلفاته- المؤرخُ المقريزي الذي عاصر تلك الحقبة وراقبها بدقة، وأرجعها -في كتابه ‘إغاثة الأمة‘- إلى ثلاثة عوامل رئيسية رأى أنها هي أسباب تلك الأزمات وما يسبقها أو يرافقها من “الغلوات” أي موجات التضخم.

    وأول تلك الأسباب -في نظره- هو الفساد الذي جعل السلطة السياسية والتنفيذية والقضائية في الدولة مرتعا لـ”كل جاهل ومُفْسد وظالم وباغٍ” يسعى إلى تولي “الخُطط (= الوظائف) السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة: كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة، وسائر الأعمال”، وغالبية هؤلاء الولاة الفَسَدة لا مال عندهم فكانوا يلجؤون إلى الاستدانة لدفع تلك الرشى للسلطان.

    وعندما يكون رأس السلطة فاسدا فمن مصلحته أن يغمض “عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع الأموال، ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء ولا بما يسترقّه من الحرائر”، ولذلك نجد أن “قوماً ترقَّوْا في خَدَم الأمراء يتولَّفون إليهم بما جَبَوْا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم، فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال”!!

    وبعد أن يتولى المفسدون الوظائف يصبح كل واحد منهم نقطة تجمّع لفاسدين أصغر منه، وهكذا ينتشر الفساد الإداري في عصب أجهزة الدولة من أعلى إلى أسفل، عبر الاختلاس أو فرض الضرائب الباهظة التي تشبه “الإتاوة” على عامة الناس وخاصتهم.

    وقد عرفت ظاهرة الرشوة مقابل تولي الوظائف العامة -في الغالب- باسم “البرطلة”، ورغم عراقة هذا المصطلح فإننا نراه شاع بقوة في مصادر تاريخ العصر المملوكي عاكسا المدى الواسع لتفشي الرشوة فيه.

    ويؤكد المؤرخ المملوكي الجركسي ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- أن هذه الظاهرة وُجدت في عصر المماليك البحرية لكنها كانت خافية ومُحارَبة، بينما أصبحت مجاهَرا بها في عصر دولة الجراكسة منذ مؤسسها الأول السلطان الظاهر برقوق الذي يقول عنه: “وحدث في أيامه تجاهرُ الناسِ بالبراطيل (= الرّشا)، فكان لا يكاد يُولَي أحدا وظيفة ولا عملا إلا بمال، وفسدَ بذلك كثير من الأحوال، وكان مولعا بتقديم الأسافل وحطّ ذوي البيوتات” الأصيلة!!

    وقد لاحظ ابن تَغْري بَرْدي أيضا خطورة هذه الظاهرة حتى بعد مرور أكثر من سبعين أو ثمانين سنة على انتشارها العلني؛ فقال معلقا: “قلتُ: وهذا البلاءُ قد تضاعفَ الآن حتّى خرج عن الحدّ، وصار ذوو البيوت (= أصحاب الشرف والأمانة) مَعْيَرَةً في زماننا هذا”!! ومن اللافت هنا أن انتشار الاختلاس والرشوة في الدولة المملوكية كان أحد المسوِّغات التي ساقها العثمانيون -فيما بعد- ضمن أسباب إخضاعهم لأراضي المماليك!

    إن نظاما سياسيا كهذا تقوم دعائم ولاية أعماله على الفساد المالي والإداري عندما يضعف أو يمر بلحظة فراغ، فإن الفوضى السياسية والأمنية ستضرب في جنابته، وهو ما حصل أيام المقريزي؛ إذْ وقع “اختلاف بين أهل الدولة آل إلى تنازع وحروب.. وثورة أهل الريف وانتشار الزُّعّار (= اللصوص) وقطّاع الطريق، فخِيفتْ السُّبُل وتعذَّر الوصول” إلى المناطق الآمنة.

    وطبيعي أن تكون كلفة ذلك الفساد باهظة على الأتباع من الفلاحين “فلما دُهِيَ أهلُ الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم، اختلت أحوالهم وتمزقوا كلَّ ممزق، وجَلَوْا عن أوطانهم، فقلَّتْ مجابي (= جبايات) البلاد ومتحصلها لقلة ما يُزرع بها، ولخلوّ أهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم”.

    ومن نماذج تطبيع السلاطين مع الفساد المتجذر أنه إزاء الضعف العام الذي كانت حلقاته تتوالى على دولة المماليك في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي من كل حدب وصوب؛ اتخذ السلطان برسباي قرارا اقتصاديا كان له مردود شديد السلبية على الأوضاع الاقتصادية في الدولة.

    فوفقا لابن حجر العسقلاني في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمْر‘؛ فإنه في سنة 832هـ/1428م أصدر برسباي مرسوما سلطانيا يقضي باحتكاره شخصيا لتجارة “الكارم” (التوابل) مع الهند، “وحجّر على الفلفل أن يُشترى لغيره، وألزم جميع التجار ألّا يتوجه أحد ببضاعة إلى الشام ولا غيرها بل إلى القاهرة…، وألزم الفرنج (= التجار الأوروبيين) بشراء الفلفل بزيادة خمسين ديناراً عن السعر الواقع (= الحقيقي)…، وحصل على التجار من البلاء ما لا يوصف، وتمادى الأمر على ذلك”!!

    وقد أدرك الإمام ابنُ حَجَر خطورة هذا التحول الاقتصادي البالغ السوء، فوجد نفسه -باعتباره قاضي قضاة الشافعية في مصر آنذاك- مضطرا لمطالبة السلطان برسباي بإزالة الظلم الذي أوقعه على تجار “الكارمية” وتجارتهم ذات المكانة المحورية في تحريك اقتصاد البلاد، والتي تشبه تجارة النفط في عصرنا هذا من حيث الأهمية العالمية، ولِما أدت إليه عوائدها من نهضة عمرانية ووقفية وعلمية هائلة، فضلا عن منافعها الاقتصادية الكبرى على المجتمع الأهلي الإسلامي وخاصة في مجال المؤسسات الوقفية.

    قاد هذا الإمام مواقف العلماء الرافضة لمظالم السلطة المملوكية المفروضة على التجار بل وعامة الشعب، وكان سلاحهم في ذلك الإفتاء بإسقاط حق السلطة في جباية الزكاة على الأنشطة التجارية والثروتين الحيوانية والزراعية.

    فقد أخبرنا ابن حجر -في ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر‘- أنه ترأس مجلسا قضائيا جمع معه قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى (الحنفية والمالكية والحنابلة)، وقضى بأن “التجار… يؤدون إلى السلطنة من المكوس (= الضرائب) أضعافَ مقدار الزكاة، وهم مأمونون على ما تحت أيديهم من الزكاة. وأما زكاة المواشي فليس في الديار المصرية غالبا سائمة (= الدابة التي تَرعْى ولا تُعلَف). وأما زكاة النبات فغالب مَن يَزرع مِن فلاحي السلطان أو الأمراء. […] وانفصل المجلس على ذلك، وانفرجت عن التجار وغيرهم” الأزمة التي كانوا يعانون منها.

    بل إن العلماء أدرجوا ضرورة مبادرة السلطان برسباي برفع المظالم عن الناس ضمن الأسباب الكبرى المُعِينة على رفع بلاء الطاعون الذي ضرب البلاد في سنة 833هـ/1429م، وحددوا من تلك المظالم ثلاث مفاسد كبرى كان من بينها “التشديد على التجار الكارمية في بيع البهار (= البهارات/التوابل) للسلطان وإلا مُنعوا من التجارة فيه…، والتَّحْكِير على القصب (= قصب السكر) ألّا يُزرع إلا في بلاد السلطان”؛ وفقا لابن حجر.

    لكن هذه المطالبة ذهبت أدراج الرياح، ولم يستمع برسباي -رغم تعهده برفع جميع المظالم التي استُحدثت بعد عهد برقوق- للمحاولة الإصلاحية التي قام بها الفقهاء والقضاة، لأن ذلك كان سيقضي على المكاسب المهولة التي كان يَجنيها من احتكار التجارة الرائجة في كل من الكارم والسكر.

    لقد أدت هذه المكاسب السلطانية الضخمة إلى بروز ما كان يُسمى “المتجر السلطاني” كنظام اقتصادي وتجاري احتكاري أصبح راسخا منذ ذلك الحين، فلا تُباع التجارة الكارمية وغيرها -من السلع المهمة الرائجة مثل السكر وأحيانا من غيرها الحطب- إلا من متاجر السلطان حصرًا، وسار خلفاء برسباي على طريقه في ترسيخ نظام الاحتكارات السلطانية.

    ومن أنواع التضييق على التجار -وخاصة في عهد السلطان بَرْسْبَاي- أنهم قد يعاقَبون لمجرد مرورهم بميناء معين يحظر السلطان المرور به؛ ومن ذلك ما يرويه المقريزي -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- من أنه بسبب انتعاش ميناء جدة التجاري على حساب ميناء عدن كثرت مظالم مسؤولي دولة المماليك بها فتجنبها التجار لصالح عدن مجددا، فأصدر بَرْسْبَاي سنة 838هـ/1434م مرسوما بـ”أن من اشترى بضاعة من عدن وجاء بها إلى جدة -إن كان من الشاميين أو المصريين-.. يضاعف عليه العُشُر (= الضريبة) بعُشريْن، وإن كان من أهل اليمن أن تؤخذ بضاعته بأسرها”!!

    التاريخ الإسلامي - تراث - التعايش الديني - المصدر:snappygoat

    ضرائب مرهقة
    ومما زاد الأوضاعَ الاقتصادية سوءا الخطرُ الذي كانت تتعرض له الأساطيل البحرية التجارية الإسلامية على أيدي القراصنة الصليبيين؛ فالمقريزي يذكر -في كتابه ‘السلوك‘- أنه لما اجتاح تيمورلنك بجحافل جيشه بلادَ الشام سنة 803هـ/1401م وحاصر دمشق “بطلت الأسواق كلها..، وقدِم الخبرُ [إلى القاهرة] أن الفرنج أخذوا ستة مراكب مُوسَقة (= محمَّلة) قمحا، سار بها المسلمون من دمياط إلى سواحل الشام ليباع بها من كثرة ما أصابها من القحط والغلاء”!!

    ولتأمين السفن التجارية الإسلامية من خطر هذه القرصنة الحربية الأوروبية، التي تذكرنا بما يشهده عصرنا -في أوقات الحروب- من مصادرات لقوافل أغذية العدو للمتاجرة بها في ظل الغلاء وشُحّ موارد الغذاء؛ يخبرنا المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في سنة 844هـ/1439م جهز السلطان المملوكي سيف الدين جَقْمَق (ت 857هـ/1453م) أولَ حملة عسكرية في عهده، وكان سببها “عَيْث (= إفساد) الفرنج في البحر وأخْذها مراكبَ التجار”.

    واللافت أنه كلما تبدّت مظاهر الضعف الاقتصادي في دولة المماليك فأتعبتها نتيجة قلة الموارد العامة للدولة، والتي كانت تؤخذ من المصادر الشرعية كالزكاة والصدقات وأخماس الحروب والغنائم وعوائد الأراضي الإقطاعية وغيرها، والمصادر غير الشرعية كالضرائب وعوائد الاحتكار؛ كانت الدولة تتوسع في الأمرين الأخيرينِ معًا، فتجمع بين الاحتكار الضار وفرض الضرائب المجحفة لفئات بعينها من كبار أمراء الدولة والمتنفّذين فيها، فتُعيّن رسوم “المقرَّر” و”الضمان” باصطلاحات ذلك العصر.

    وقد عدّد الإمام المؤرخ المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنواعا كثيرة من الضرائب الاحتكارية التي فرضها المماليك على قطاعات زراعية وصناعية وإنتاجية متنوعة في البلد، فكان قطاع مثل تربية وإنتاج وتسويق “الفراريج” (الدواجن) يُعطى من قبل السُّلطة لأعيان محددين من كبار الأمراء العسكريين المقطَعين، ثم تُؤخذ منهم ضرائب سنوية مقرَّرة ومحدَّدة، وكانت الضحايا الذين يعانون من هذا التلاعب هم الضعفاء من عامة الناس.

    يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: “ومن ذلك مُقرَّر طرح الفراريج: ولها ضمان (= ضرائب احتكارية) عدّة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج، فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدّة مُقْطَعِين، ولا يمكن أحد من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فرُّوجا فما فوقه إلا من الضامن (= المحتكِر)، ومن عُثر عليه أنه اشترى أو باع فرّوجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان، وما هو بميت”!!

    وللقارئ الكريم أن يقيس مستوى الأوضاع الاقتصادية المزدهرة في دولة المماليك البرجية مع نظيرتها المتدهورة في دولتهم البحرية، لكي يدرك التراجع الهائل الذي وصلت إليه تلك الأوضاع وقاد -في نهاية المطاف- إلى اندثار هذه الدولة العظيمة!

    ففي عهد الازدهار الاقتصادي المملوكي بلغت القاهرة من الاستبحار العمراني مستوى عاليا يصفه القلقشندي -في ‘صبح الأعشى‘- بقوله: “ولم تزل القاهرة في كل وقت تتزايد عمارتها وتتجدّد معالمها… حتّى صارت على ما هي عليه في زماننا من: القصور العليّة، والدور الضخمة، والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدّة، والمناظر النَّزِهَة، والجوامع البَهِجَة، والمدارس الرائقة، والخوانق (= زوايا الصوفية) الفاخرة، مما لم يُسمع بمثله في قُطْر من الأقطار، ولا عُهد نظيره في مصر من الأمصار”!!

    بل إنه في عصر ذلك الازدهار كان حجم قمامة المدن المملوكية -على سبيل المثال- مؤشرا مهمًّا في قياس مكانتها واتساع عمرانها، ومعيارا ملحوظا في ميزان مفاضلتها مع غيرها من الأمصار؛ فقد بلغت “كيمان القاهرة” -وهي تلال بقايا الأتربة وما في معناها من مخلفات قمامات البيوت ومستعمَلات الأسواق- حدًّا عظيمًا في العصر المملوكي الأول.

    ويحدثنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه سمع من بعض شيوخ عصره -الذي عايشوا دولة المماليك البحرية- أنهم كانوا “يفاخرون بمصر (= القاهرة) سائر البلاد ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) على الكيمان (= جمع كوم: التلال) والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبّانون والجبّانون والطباخون من الشِقاف (= قطع خزفية) الحمر التي يُوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين..، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق..؛ فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حُملت من الأسواق وأُخذ ما فيها أُلقيت إلى المزابل”!!

    وقد صبت ثمرات تلك القوة الاقتصادية والعمرانية في ترسيخ المكانة السياسية للدولة المملوكية على خريطة القوى الإقليمية والدولية، حتى صارت القاهرة “أمَّ الممالك، وحاضرة البلاد، وهي في وقتنا دار الخلافة، وكرسيّ المُلك، ومنبع الحكماء، ومحطّ الرحال، ويتبعها كل شرق وغرب خلا الهند فإنه نائي المكان بعيد المدى”؛ وفقا للقلقشندي.

    وهكذا انتقلت دولة المماليك -في ظل التضييق على التجارة والاقتصاد في القطاعين العام والخاص لصالح السلطان وكبار الأمراء حصرا- إلى مرحلة جديدة تُثقِل فيها أعباءُ الفساد المالي والإداري كاهلَ الدولة، وتُفقِر عُمومَ الناس، وزادت الطينَ بلةً الإجراءاتُ التي قام بها السلطان برسباي على المستويين السياسي الداخلي بتقريبه مماليكه الأجلاب وتفضيلهم على غيرهم من طوائف المماليك الأخرى، بالإضافة إلى احتكار التجارة الكارمية ذات الأهمية العالمية.

    كل ذلك جعل بوصلة الدولة المملوكية تتجه مع مرور الزمن نحو الانحراف في الحكامة الداخلية والضعف في السياسة الخارجية، وهو أمر لاحظه المقريزي في سياسات السلاطين الذين عاصرهم واحتكّ بحكمهم عن كثب، حتى أولئك الذين مدحهم في بعض فترات حكمهم.

    فقد وصف مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- السلطانَ المؤيد شيخ المحمودي بـ”سيد ملوك الزمان”، لكنه حين حَكَم على عهده -بعد وفاته- قال عنه -في كتابه ‘السلوك‘- إنه “هو أكثر أسباب خراب مصر والشام لكثرة ما كان يُثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق، ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه بغير وازع من عقل ولا ناهٍ من دين”!! وقال عن السلطان برسباي بُعيد وفاته مقيِّما عهده: “شمل بلادَ مصر والشَّام في أيَّامه الخرابُ وقلةُ الأموال بها، وافتقر النَّاس، وساءت سِيَرُ الحكَّام والولاة، مع بلوغه آمالَه ونيله أغراضه”!!

    ثم تطورت صراعات طوائف المماليك الداخلية مع مجيء كل سلطان؛ لاسيما بين طبقتيْ “الأجلاب” و”القرانيص” وغيرهم إلى اضطرابات أمنية هائلة، هذا مع استمرار تمرد القبائل والإمارات التركمانية في جنوب ووسط الأناضول على طول القرن التاسع الهجري وحتى دخول العثمانيين مصر، وكلها أسباب أدت إلى اعتلال الحياة الاقتصادية والحركة التجارية، وبالتالي قادت إلى تناقص الموارد المالية وفراغ خزائن الدولة وتضاعُف عوامل اختلالها وانحلالها.

    صور من التاريخ الإسلامي - كوارث طبيعيه - تراث الجزيرة - ميدجورني
    (الجزيرة – ميدجورني)

    أزمات وبائية
    وبالإضافة إلى التداعيات السلبية للصراع على العرش، والنتائج الوخيمة لتفشي الفساد المالي والإداري، وما فرضه السلاطين من ضرائب ظالمة ومجحفة على التجار وغيرهم؛ عانت دولة المماليك الثانية من تبعات أزمات كبرى سبقتها خلال القرن الثامن الهجري/الـ14م كان الوباء والغلاء هما أكثرها تكرارا وأخطرها آثارا، وفقا لما لاحظه المقريزي -في مقدمة كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- حينما أورد أربع أزمات كبرى تتابع وقوعها متوزعا على أرباع هذا القرن.

    فقد ذكر المقريزي -ضمن سياقِ رصْده للكتب التي تؤرخ لمرافق القاهرة ومنشآتها وأسباب اختفائها- أن القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج (ت 730هـ/1330م) صنّف “«كتاب إيعاظ المتأمل وإيقاظ المتغفل» في الخطط (= الأحياء السكنية)، بيّن فيه جُمَلا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمئة، وقد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمئة (749هـ/1348م)، ثم في وباء سنة إحدى وستين (761هـ/1360م)، ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمئة (776هـ/1374م)”!!

    ثم تعاظمت وتيرة حدوث هذه الأزمات -بمختلف أنواعها- طوال عقود القرن التاسع الهجري/ الـ15م وحتى سقوط الدولة المملوكية، وهو ما يحدد لنا المقريزي بدايته الفعلية بقوله: “فلما كانت الحوادث والمحن -من سنة ست وثمانمئة (806هـ/1403م)- شمل الخرابُ القاهرةَ ومصرَ وعامةَ الإقليم”!!

    ثم إنه رصد -في ‘السلوك‘ ضمن وقائع سنة 821هـ/1418م- تفاقمَ الآثار السلبية لتلك الأزمات وما صاحبها من فساد إداري على استمرارية الدولة، فقال متنبئا بقرب نهايتها: “وقد اختلَّ إقليم مصر في هذه السنين خللا شنيعا يظهر أثره في [السنين] القابلة”، وذكر في تفصيل ذلك “من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته”!!

    بل إن الحوادث الأمنية والفتن تسببت في موجة غلاء رغم توافر المحاصيل الزراعية كما وقع بمنطقة صعيد مصر سنة 818هـ/1415م؛ إذْ يرصد الإمام ابن حَجَر العسقلاني -في ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر‘- تداعيات الغلاء الذي وقع في تلك السنة، فإنه رغم أن السَّنة بدأت برخص ظاهر في الأسعار و”مع وجود الغِلال وزيادة النيل” فإنه “آل الأمر إلى أن فُقِد القمح، وبلغ الناس الجهدَ وانتشر الغلاء في قِبْلِيِّ (= جنوبي) مصر وبحريِّها (= شماليها)”!!

    ويُرجع العسقلاني أسباب الغلاء إلى “كثرة الفتن بنواحي مصر من العرب وخروج العساكر مرة بعد مرة، ففي كل مرة يحصل الفساد في الزروع ويقلّ الأمن في الطرقات فلا يقع الجَلْب (= توريد السلع) كما كان”، وخرجت قوات لضبط الأمن هناك بقيادة قائد كبير من المماليك “فعاث من معه في الغلال وأفسدوا”. وتزامن ذلك مع قحط شديد وقع في الحجاز والشام “فكثر التحويل في الغلال إلى [تلك] النواحي من أراضي مصر وصعيدها”.

    وكان من أكثر الأزمات تكرارا -في العصر المملوكي- انخفاضُ منسوب النيل الذي كان يؤثر على الزراعة في مصر التي هي المصدر الأساسي لملء خزانة الدولة، فضلا عن مد السوق المحلية بالسلع الأساسية وأولها الخبز.

    والأزمات السنوية التي أصيبت فيها البلاد بانخفاض منسوب النيل كثيرة، مثل أزمة سنة 822هـ/1419م التي وصل فيها سعر القمح إلى 350 درهما (= اليوم 700 دولار أميركي تقريبا) للأرْدبّ (= 80 كغ تقريبا)، أي إن سعر كيلو القمح في تلك الأزمة قد بلغ ما قيمته اليوم 8.5 دولارات أميركية تقريبا، وهو مبلغ ضخم مرهق للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

    ولهذا السبب “شمل الخرابُ قرى أرض مصر” كما يقول المقريزي، وغالبا ما كانت تصاحب الأزمةَ الغذائية أزماتٌ صحية وبائية تفتك بالناس؛ فقد “فشت الأمراض من الحميات (= جمع حُمَّى)، وبلغ عدد من يَرِدُ الديوانَ من الأموات (= تسجَّل أسماؤهم لدى السلطة) نحو الثلاثين في اليوم، والظلم كثير لا يتركه إلا من عَجز عنه”!!

    وكما جرى في مصر؛ كان الغلاء يقع في الشام المملوكي بسبب انحباس المطر، أو بسبب هروب المصريين إلى الشام أثناء انخفاض النيل الحاد؛ نجاةً بأنفسهم وذراريهم كما وقع في سنة 855هـ/1451م عندما “وردت الأخبار من البلاد الشامية بغلوِّ أسعارها إلى الغاية، وأن القمح بيع فيها كل غِرَارة (= كيس حبوب يسع نحو 200كغ) بستمئة فضةً، وكذا وقع الغلاء فيها أيضاً في سائر المأكولات لكثرة من قدم عليها من مصر وغيرها فرارا من الغلاء، ولعظم ما وقع بها من الثلوج”؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي في ‘حوادث الدهور‘.

    وربما تفاقمت تداعيات الكوارث الطبيعية بحوادث الاضطراب السياسيّ والفتن الطائفية -وما يتبعها من فراغ أمنيّ- إلى حدِّ تعطيل الشعائر الدينية العامة مثل صلوات الجُمَع والجماعات، بل ومواسم الحج؛ فالمؤرخ المملوكي ابن شاهين المَلَطي يروي -في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- أنه في أحد أيام الجمعة سنة 802هـ/1399م حدثت وقعة كبيرة بين أمراء المماليك “ارتجّت منها القاهرة…، فغُلقت أبواب الجوامع واختصر الخطباء وأوجزوا في الصلاة، ولم يُخطب في بعض الجوامع، بل ولا صُلي في بعض أيضا، وخرج الناس في ذعر وأغلقت الأسواق”.

    أما الحرب الأهلية المملوكية بين السلطان المخلوع الناصر محمـد بن قلاوون والسلطان المظفر بَيْبَرْس الجاشْنَكِير فقد منعت أهل الشام من المشاركة في موسم الحج سنة 709هـ/1310م، وذلك حين عزم الناصر على العودة من الشام مقرِّ منفاه إلى مصر واندلع الصراع بينه وبين المظفر فـ”لم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة”؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي.

    وفي ظل ضعف قبضة سلاطين مصر المماليك على الحجاز؛ يذكر ابن شاهين المَلَطي أنه انقضت سنة 828هـ/1425م فـ”لم يحجّ من العراق أحد، وأخبِروا أن سبب تعويقهم [كان] خوفا على أنفسهم من مُقبل أمير الينبع، فإنه كان تحوّل إلى طريق الحاجّ لفساد يفعله”!!

    ونتيجة لتلك الأزمات السياسية والاقتصادية والصحية والأمنية التي ظلت تتوالى على دولة المماليك نتيجة عدم استقامة وفعالية السياسة العامة للسلاطين؛ فإنها قد انكفأت على نفسها في عصر الجراكسة على نحو ما نقلناه في كلام ابن تَغْري بَرْدي من عدم خوضهم للحروب الكبرى، إذا ما استثنينا الانتصار المهم على القبارصة اللاتين الذي انتهى بسيادة المماليك على هذه الجزيرة، ليبدأ بذلك عهد تبعيتها للمماليك ثم العثمانيين فيما بعد.

    وهكذا فإن الأهداف التي نشأت من أجلها الدولة المملوكية تلاشت بمرور الزمن، وعلى رأسها مواجهة الغزاة من الأعداء مثل المغول والصليبيين والأرمن، وحماية الحرمين الشريفين، وتحقيق الأمن والعدالة للرعية، وإعادة إحياء الخلافة العباسية في طورها الثالث، وكل هذه المبررات السياسية قد تحققت بالفعل مع دولة المماليك الأولى (648-784هـ/1250-1382م) قبل أن تتلاشى الواحدة بعد الأخرى في دولتهم الثانية.

    المصدر : الجزيره - ميدجورني التاريخ الإسلامي - تراث - ثورة النفس الزكية
    (الجزيرة – ميدجورني)

    تحولات إقليمية
    منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ لم تبق إلا إمارات قليلة كبرى في وسط وجنوبي الأناضول مثل: الإمارة القرمانية و”إمارة دلغادر” (ذو القدر)، وإمارة أبناء رمضان، وفي أقصى الشرق دولتا: “آق قويونلو” (ذوو الخِراف البِيض) و”قره قويونلو” (ذوو الخِراف السود).

    وقد تزامن هذا الانحسار في القوى السياسية بهذه المنطقة مع انتصار العثمانيين على البيزنطيين وفتح القسطنطينية في سنة 857هـ/1453م، ثم افتتاحهم مناطق شاسعة في البلقان، وتعاظم القوة البحرية العثمانية في بحر إيجه والبحر المتوسط، ثم استيلائهم على الإمارات التركمانية المفكَّكة والضعيفة التي نشأت أثناء وعقب انهيار دولة سلاجقة الروم منذ سنة 700هـ/1300م.

    لقد عمل العثمانيون على توسيع رقعة دولتهم في منطقة الأناضول، ورأوا أنهم أكثر استحقاقا للسيطرة السياسية عليها من المماليك الذين دخلوا في مراحل التأخر الحضاري منذ منتصف ذلك القرن، وربما منذ بداية عصر الجراكسة في منتصف ثمانينيات القرن الذي سبقه.

    ولقد أصاب المؤرخ مايكل وينتر -في كتابه ‘المجتمع المصري تحت الحكم العثماني‘- حين قال: “تُعدُّ فترة حكم الشركس -أو المماليك البرجية- فترة اضمحلال إذا ما قورنت بفترة المماليك البحرية التركية؛ فلم يعد للسلطنة أعداء خطرون إذْ إن الفرنجة الصليبيون كانوا قد طُردوا سنة 1291م [690هـ]، ومع مطلع القرن الخامس عشر (التاسع الهجري) -بعد انسحاب تيمور لنك من الشام- لم يعد المغول يُشكلون تهديدًا، فلم يُطوِّر الجيش طرائق فنية عسكرية جديدة (تكنيكات)، كما لم يتّخذ تكنولوجيات عسكرية جديدة؛ ذلك أن المماليك رفضوا استخدام أسلحة نارية -وهي التسليح الحديث لذلك الزمان- معتبرين أنها أسلحة لا تمتُّ بصلة للفروسية أو الرجولة أو الإسلام، كما لم يكن من الممكن استخدام البندقية من فوق صهوة جواد…، ونتيجة لذلك مرَّ الجيش المملوكي بفترة طويلة من الركود”.

    ويتوسع وينتر في رسمه لسياق الصدام المملوكي العثماني؛ فيضيف أنه “بينما كانت الدولة المملوكية تضمحل؛ حققت جارتها الشمالية الدولة العثمانية تقدما سريعًا…، واشتبكت في الحرب المقدّسة ضد البيزنطيين، وتوسّعت باطراد على حساب الحكّام المسيحيين في البلقان الممزَّق، وعلى حساب الإمارات التركية في الأناضول…، وبعد أن استولى العثمانيون على القسطنطينية تزايد توجّس المماليك من التوسّع العثماني”.

    ثم يشير إلى أنه في نهاية القرن التاسع الهجري/الـ15م صارت العلاقات الدولية في الشرق الأوسط فجأةً أكثرَ تعقيدًا؛ إذ إن اكتشاف البرتغاليين -في سنة 903هـ/1498م- لـ”رأس الرجاء الصالح” ووصولهم -بمساعدة من البحارة المسلمين- إلى الهند حَرَم مصرَ من عوائد تجارة التوابل، فساهم ذلك في مصاعب اقتصادية جمّة عانت منها الدولة المملوكية، لاسيما إثر الحصار الذي فرضه البرتغاليون على موانئ البحر الأحمر وخاصة ميناء جدة المملوكي.

    ذلك الحصار الخانق الذي تواصل ست سنين، وحدثنا عنه وعن تأثيراته الاقتصادية على مؤسسة بيت المال المملوكية مؤرخ معاصر لوقائعه هو ابن إياس الحنفي؛ فهو يذكر -في ‘بدائع الزهور‘- ضمن وقائع سنة 920هـ/1514م أنه “كان في تلك الأيام «ديوان المفرد» و«ديوان الدولة» و«ديوان الخاص» (= مؤسسات مالية) في غاية الانشحات (= قلة المال) والتعطيل؛ فإن بندر (= ميناء) الإسكندرية خراب ولم تدخل إليه القطائع (= السفن) في السنة الخالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبّث الفرنج (= البرتغاليون) على التجار في بحر الهند؛ فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدّة نحواً من ست سنين”!!

    في ظل هذه الأوضاع الإقليمية الضاغطة؛ جاء التنافس الإقليمي بين المماليك والعثمانيين الذي تعود جذوره إلى عصر السلطان العثماني بايزيد الأول (ت 805هـ/1402م)، فقد استغل بايزيد ظروف وفاة السلطان المؤسس لدولة المماليك البرجية الظاهر برقوق سنة 801هـ/1399م وارتقاء ولده الناصر فرج، وما تلا ذلك من تصارع بين المماليك على المناصب والولايات والحروب الأهلية فيما بينهم، ففي تلك السنة ذاتها “حاصر أبو يزيد بن عثمان مَلَطية والأبلتين (= وسط تركيا) وتسلمهما”. كما يذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمْر‘.

    بل إن المقريزي يخبرنا بأن طموح بايزيد لم يقتصر على منطقة التخوم بين الشام والأناضول، وإنما امتد إلى السيطرة على بلاد الشام نفسها؛ فهو يذكر -في كتابه ‘السلوك لمعرفة الملوك‘- أنه في شوال سنة 801هـ/1399م “ورد الخَبَر بأن بايزيد بن عثمان ملك الرّوم (= الأناضول) تحرك للمشي على بلاد الشَّام” لانتزاعها من قبضة المماليك.

    ولعل تحركات بايزيد تلك -التي أجهضتها هزيمته أمام تيمورلنك في «معركة أنقرة» ثم أسْره وقَتْله على يديه- هي التي ألهمت ابنَ خلدون -بجانب حدسه التاريخي وتأمله في مصائر الأمم قياماً فازدهارا وانحطاطا فاندثارا- تنبُّؤَه الصادقَ بسقوط مصر -وليس الشام فقط- في أيدي العثمانيين.

    فقد قال تلميذه ابن حجر في كتابه ‘رفع الإصر‘: “سمعتُ ابنَ خلدون مرارا يقول: ما يُخشَى على ملك مصر إلا من ابن عثمان”!! والمقصود بـ”ابن عثمان” هنا هو السلطان العثماني حينها بايزيد الأول، لكن انكسار العثمانيين -أمام الاجتياح المغولي لبلادهم- أجّل تحقق نبوءة ابن خلدون بسيطرتهم على مصر بما يتجاوز قرنا بعد وفاته.

    ويؤكد المؤرخ التركي إسماعيل حقي أوزون جارشلي (ت 1397هـ/1977م) في كتابه “Osmanlı Tarihi” (التاريخ العثماني) أن الصراع المملوكي العثماني بلغ أشده منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري/الـ15م، أي في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح (ت 886هـ/1481م) الذي دخل في مواجهة مع السلطان المملوكي الأشرف إينال لأسباب ثلاثة:

    أولها أن السلطان الفاتح اشتكى له علماءُ دولته -وخاصة ممن أدَّوْا فريضة الحج- من وعورة طريق الحج، واحتياج قوافل الحجاج الشديد إلى موارد الماء في طرقهم، فعرض على سلطنة المماليك -التي كانت تحكمُ منطقة الحرمين الشريفين- أن تتكفل الدولة العثمانية بإصلاح طريق الحج وإنشاء الأسبلة والآبار، لكن السلطان المملوكي آنذاك الأشرف إينال رفض هذا الطلب.

    وأما السبب الثاني الذي أجّج الصراع بين الطرفين؛ فهو أن المماليك كانوا يدعمون طرفا في “إمارة دلغادر” (ذو القدر) التركمانية وسط الأناضول، بينما ساند العثمانيون طرفا آخر، وقد أدى هذا التدخل الخارجي في شؤون الإمارة الأناضولية -التي ظلت فترة طويلة ضمن سيادة المماليك- إلى اشتعال المواجهة بين الدولتين، حتى بعد وفاة السلطان محمد الفاتح في سنة 886هـ/1481م.

    ويؤكد أوزون جارشلي أن السبب الثالث الذي أدى إلى زيادة التوتر والعداء بين الجانبين هو تهاون المماليك بالبروتوكولات الاستقبالية اللائقة بسفراء العثمانيين، ومعاملتهم بدرجة من الاستخفاف اعتبرها السلطان محمد الفاتح وخلفاؤه من بعده إهانة لدولتهم وقوتهم في المنطقة.

    وقد استخدم العثمانيون ببراعةٍ حلفاءَهم في الدولة القرمانية و”إمارة دلغادر” (ذو القدر) في مواجهتهم للمماليك، وإن استطاع السلطان المملوكي الجركسي الأقوى الأشرف قايتباي أن يدحر قوات المتمردين في هاتين الإمارتين، ومن خلفهم جيش العثمانيين في ثلاث جولات حاسمة تتابعت طوال عشرين سنة، أدت في النهاية إلى عقد اتفاقية صداقة وسلام بين الجانبين.

    ولكن ذلك الحسم الأوّلي أنهك الخزانة المملوكية، فقد قدّر المؤرخ المملوكي ابن إياس الحنفي -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- أن قيمة ما أنفقه قايتباي على بعض هذه الحروب بلغ “ألف ألف دينار (= اليوم 200 مليون دولار أميركي تقريبا) حتى عُدَّ ذلك من النوادر، ولم يُسمَع… فيما تقدم من الدول الماضية أن أحدا من السلاطين فعل مثل ذلك”!!

    A Turkish folkloric group performs at Tripoli's citadel, northern Lebanon April 26, 2012, during an annual cermony to commemorate the 723rd anniversary of the liberation of the city from the Crusaders by the Mamluks. The group from Istanbul, performed a traditional show inspired by the Ottoman period, as they marched from Tripoli's citadel to the old souk. REUTERS/Omar Ibrahim (LEBANON - Tags: SOCIETY ANNIVERSARY) مماليك
    (رويترز)

    صعود عثماني
    ورغم هذا التنافس الإقليمي بين الجارتين مصر وتركيا أو المماليك والعثمانيين جنوبي الأناضول؛ فإن المصاعب الاقتصادية المملوكية المتفاقمة اضطرت السلطان قانصوه الغوري إلى طلب المساعدة الفنية واللوجستية من العثمانيين لمواجهة الخطر البرتغالي الناجم حينها من جهة ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي، فأمدّوه بالسلاح والخبراء الفنيين الذين ظلوا في القاهرة وميناء السويس عدة سنوات للإشراف على تطوير الأساطيل المملوكية، وقد انطلقت بمساعدتهم عدة حملات بحرية مملوكية لكنها لم تؤد إلى انجلاء الخطر البرتغالي، وكان لتخلف القوة البحرية المملوكية دور كبير في تلك النتيجة.

    والواقع أن هذا التخلف البحري المملوكي سَبَقَ عصرَ السلطان الغوري؛ فهو يعود إلى عهد المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية الظاهر بيبرس الذي أرسل حملة بحرية لغزو جزيرة قبرص سنة 669هـ/1270م؛ لأنها كانت تمد الإمارات الصليبية في الساحل الشامي بالمؤن والسلاح، لكن الحملة العسكرية التي أرسلها الظاهر بيبرس فشلت ووقعت قواته بأكملها في الأسر.

    ووفقا لما أورده الإمام العَيْني في كتابه ‘عِقد الجمان‘؛ فقد بعث الظاهر بيبرس رسالة إلى ملك قبرص هيوج الثالث (ت 683هـ/1284م) مهوِّنًا من أسر سفن المماليك وطاقمها العسكري، ومتفاخرا -في المقابل- باستيلائهم على القلاع الصليبية الحصينة سنة 670هـ/1271م بمنطقة الساحل الشامي، وملخصا طبيعة الذهنية القتالية للمماليك التي تُعلي شأن القتال من فوق صهوات الخيول لا من أعلى سطوح السفن. وفي ذلك يقول بيبرس في رسالته هذه:

    “ما العجب أن يُفخر بالاستيلاء على حديد وخشب (= السفن)؟! الاستيلاءُ على الحصينة (= القلاع) هو العجب!! وقد قال وقلنا، وعلم الله أن قولنا هو الصحيح، واتكل واتكلنا، وليس من اتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح، ونحن نُنشئ في يوم واحد عدّة قطائع (= قطع بحرية)، ولا يُنشأ لكم من حصن قطعة! ونجهزّ مئة قلْعٍ (= شراع السفينة) ولا يُجهَّزُ لكم في مئة سنة قلعة! وكُلُّ من أُعطِي مِقْذافاً (= مجداف السفينة) قذّف (= جدَّفَ)، وما كلُّ من أُعطِي سيفا أحسن الضرب به أو عَرَف! وإن عُدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، وأين الذين يطعنون بالمقاذيف في صدر البحر من الذين يطعنون بالرماح في صدور الصفوف؟! وأنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول”!!

    فبهذه الجملة التي وردت في خطاب بيبرس إلى هنري: “أنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول” تتلخّص النظرة المملوكية إلى القوة البحرية، صحيح أن المماليك تمكنوا من تحقيق انتصارات بحرية مهمة، وعلى رأسها -كما سبق القول- فتح جزيرة قبرص والاستيلاء عليها في عصر الأشرف برسباي سنة 828هـ/1425م.

    لكن تلك الانتصارات المحدودة لم تكن إلا استثناء للقاعدة التي تؤكد أنهم لم يكونوا قوة بحرية وازنة في أي مرحلة من تاريخهم، حتى إن المؤرخ البريطاني جيمس واترسون يرى -في كتابه ‘فرسان الإسلام وحروب المماليك‘- أنه فيما يخص “الاستجابة العسكرية” المملوكية للتهديدات الأوروبية “كانت المشكلة [دائما] تكمن في الأسطول البحري، أو في عدم وجوده على وجه أدق”! وأن ذلك التقصير في الاستعداد البحري كان متوارثا بين سلاطين المماليك منذ عهد بيبرس.

    ورغم أن واترسون ختم كتابه بوصفه الجازم للمماليك بأنهم “وصلوا إلى ذروة الكمال في الفنون العسكرية”؛ فإنه لاحظ بحق أن “المماليك [البرجية الشراكسة] كانت لديهم فجوة هائلة في القوة البحرية، كان يتعيّن عليهم اجتيازها عندما فرضت عليهم الحاجة المُلحّة ذلك عندما وصل البرتغاليون إلى سواحل البحر الأحمر في القرن الخامس عشر (التاسع الهجري)، والأكثر أهمية من ذلك أن هذه السياسة أظهرت كيف أن القوة الرئيسية في العالم الإسلامي تقوقعت على نفسها، واعترض المماليك على التوسّع والمغامرة في الوقت الذي كانت فيه الأمم الغربية قد بدأت في اعتناق هذا المبدأ (= مبدأ المغامرة) بطريقة شاملة، وكانت سياستهم المبسطة وغير الواقعية في الدفاع -عن طريق حرمان العدو من قطعة أرض للرسو عليها- خيالية ومتصلّبة، وامتد هذا الجمود إلى منهجهم الفكري نحو إستراتيجية كبرى”.

    ويرى هذا المؤرخ أنه “تعود الميزة الهائلة التي حصلت عليها الدول الغربية -من خلال الاستثمار المستمر في القوة البحرية والملاحة في المحيطات والتي أدّت في النهاية إلى هيمنة الغرب والاقتراب من الوهن لدول الشرق الأوسط في العصر الحديث- بأصولها إلى العصر الذهبي للمماليك، ولكن سلاطين المماليك في القرن الثالث عشر (السابع الهجري) بالطبع لم يكن في مقدورهم التنبؤ بهذا الأمر، وكانت صناعة السياسة بالنسبة لهم -كما هو الأمر بالنسبة للكثيرين من الساسة في عالم اليوم- تمثّل ببساطة عملية التفاعل البسيط فقط مع الأحداث، ولم يكن الشرق الأوسط في العصور الوسطى خاليًا قطُّ من الأحداث الجسام”.

    ولم يقتصر التخلف العسكري المملوكي على الجانب البحري فقط، رغم وجود التحدي من البرتغاليين وطائفة الإسبتارية الصليبية في أواخر عهد الدولة في المحيط الهندي والبحرين المتوسط والأحمر، وإنما امتدّ هذا التخلّف أيضا إلى الميدان القتالي البرّي؛ ذلك أن العثمانيين -وهم المنافسون الإقليميون الأخطر- لم يركنوا -بعد هزائمهم الثلاث أمام المماليك في عصر الأشرف قايْتباي بسبب الصراع المملوكي العثماني على الإمارات التركمانية في وسط وجنوب الأناضول- إلى الدعة والكسل اللذين ركن إليهما نظراؤهم المماليك.

    لقد خاض العثمانيون صراعا حربيا مستمرا على أربع جبهات ساخنة: مع الصفويين في أقصى الشرق، والصليبيين في الغرب، والمماليك في الجنوب، ولاحقًا مع الروس في الشمال، واستفادوا من تلك التجارب العسكرية إدراكهم أن التحدي التسليحي هو أهم ما يواجه الأمم والجيوش، وحالما اختُرعت البندقية الحديثة لجؤوا إليها، واستعانوا بها مع المدافع المحدّثة المطوّرة، وقد أثبت التسليح العسكري العثماني الحديث فاعليته في المواجهة أمام الصفويين سنة 920هـ/1514م، ومع المماليك في سنتيْ 922-923هـ/1516-1517م.

    Mameluke chief, 1798.Artist: James Gillray Mameluke chief, 1798. 'Supposed to be, a correct representation of a Mamaluke Chief; from a Sketch by a French Officer by whom he was taken Prisoner'. Hand-coloured later. (Photo by The Print Collector/Print Collector/Getty Images) مماليك
    (غيتي إيميجز)

    ركود قاتل
    أما المماليك فلم يُحاولوا ابتداع خطة لمواجهة هذا السلاح الجديد؛ لأن طبيعتهم لم تتسم بالمرونة الكافية للتعلم والتحديث، ومن عجب أن سلالة المماليك -الذين سقطوا أمام الأسلحة العثمانية الحديثة في معركتيْ مرج دابق والريدانية- هم ذاتهم الذين سقطوا -بعد ذلك بقرنين ونصف- في موقعة الأهرام أمام الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت (ت 1235هـ/1821م)، وهكذا ظل العقل العسكري المملوكي أسير الجمود والتخلف عن مواكبة العالم في تطوراته العسكرية المتلاحقة!

    وتلخص لنا عمق ذلك الجمود والتخلف المملوكي تلك القصة التي رواها المؤرخ المصري أحمد بن زُنْبُل الرمّال (ت 960هـ/1543م) في كتابه ‘آخرة المماليك‘ الذي وثق فيه حوادث سقوط دولة المماليك؛ فقد ذكر أن رجلاً مغربيا جاء إلى مصر حاملاً معه بندقية أوروبية فقدمها إلى السلطان قانصوه الغوري “وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق (= جمهورية البندقية/فينيسا)، وقد استعملها جميع العسكر الروم (= الأتراك العثمانيون) والعرب، وهذه هي!

    فأمره [السلطان] أن يُعلّمها لبعض مماليكه ففَعَلَ، وجيء بهم فرموا بحضرته، فساءه ذلك! وقال للمغربي: نحن لا نترك سُنّة نبينا ونتبع سنة النصارى…! فرجع المغربي وهو يقول: من عاش [سـ]ـينظُر هذا الملك وهو يُؤخَذ بهذه البندقية، وقد كان ذلك”!! فقد سقط الغوري فعلا بتلك البندقية العثمانية ثم سرعان ما سقطت بها دولته بعده في غضون سنة واحدة!!

    وقد اعترف المنهزمون من المماليك وقوات الأعراب الداعمة لهم بقوة البندقية العثمانية وفعاليتها القتالية؛ فابن زنبل يخبرنا بأنه بعد هزيمة الأمير شاد بك (ت بعد 923هـ/1517م) -وهو أحد رفقاء السلطان المملوكي طومان باي- ولجوئه إلى العربان بعد دخول العثمانيين إلى القاهرة، وفي حديثهم عن شجاعة طومان باي وفروسية المماليك قالت العربان: “لكن من يصبر على ملاقاة هذه النيران وضرب الزانات (= رماح قصيرة) والبندقيات؟! ولو كانوا مثلنا يُقاتلون على ظهور الخيل كان الواحد منا يقاتل منهم مئة ومئتين؛ لأنهم ليس عندهم معرفة في ركوب الخيل، ولا الجولان في الميدان”!!

    وهو القول الذي أكده أيضا والي القاهرة المملوكي الأخير الأمير الجركسي كرتباي (ت بعد 923هـ/1517م)، بعد أن وقع أسيرًا في أيدي العثمانيين؛ فكان مما قاله في حديثه للسلطان العثماني سليم الأول حسب رواية ابن زُنْبُل: “اسمع كلامي، وأصغِ إليه حتى تعلم أنت وغيرك أن منّا فرسان المنايا والموت الأحمر، ولو يلي واحد منا بعسكرك بنفسه وحده، وإذا لم تُصدّق فجرّب، فاؤمُر عسكرك أن يتركوا ضرب البندق فقط…، وهذه هي البندق التي لو رَمَتْ بها امرأة لمنعتْ بها كذا وكذا إنسانًا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتَنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد ﷺ”!!

    هكذا رأى المماليك استعمال البندقية في الحروب مخالَفةً لسُنة النبي ﷺ ومنهجه في الحروب، ووصفوها بأنها “الحيلة التي تحيّلتْ بها الإفرنج لمّا أن عجزوا عن ملاقاة العساكر الإسلامية”؛ طبقا لابن زُنْبُل. ولم يُرجع سلاطينُ المماليك الخللَ إلى أنفسهم وانغلاقهم عن متابعة تطورات العالم حولهم في مجال التسليح، حتى جاءهم العثمانيون بالمدافع الحديثة الحاسمة في الحرب البرية، وجاءهم البرتغاليون بالأساطيل القوية الفاصلة في الحرب البحرية؛ فتأخروا برًا وبحرًا تأخُّراً أحرج دولتهم وأخرج مُلكهم من مسرح التاريخ!!

    والواقع أن المماليك امتلكوا المَدافع -التي كانوا يسمونها “المكاحل”- لكنهم لم يتوسّعوا في صناعتها بعد زوال الخطر المغولي والصليبي، ويشير مؤرخ سقوط مصر المملوكية ابن زُنْبُل إلى وجود أربعة مدافع مملوكية تم دفنها في الرمال في مصر قُبيل وأثناء معركة الريدانية شمال القاهرة سنة 923هـ/1517م، التي هُزم فيها المماليك أمام العثمانيين وفُتحت لهم أبواب مصر من بعدها.

    لكن ابن إياس يذكر عددا من المدافع المملوكية أكبر مما أورده ابن زُنْبُل؛ فيقول إن “السلطان [قانصوه الغوري] سَبَك نحوا من سبعين مكحلة (= مدفعا) ما بين كبار وصغار من نحاس وحديد، فكان منهم أربعة كبار”، ولعل هذه الأربعة الكبار هي التي ركّز ابن زُنْبُل على ذكرها -دون بقية السبعين- نظرا لضخامة حجمها.

    وطبقا لابن زُنْبُل أيضا؛ فإن خبيرا في المدافع هو “الأمير يزبك المكحّل” سبق له أن كان ضمن الأمراء الأربعة والعشرين الكبار الذين خرجوا مع قانصوه الغوري إلى المعركة الأولى الحاسمة مع العثمانيين في مرج دابق الواقعة اليوم شمالي محافظة حلب السورية، لكن لم تذكر المصادر أن المماليك استخدموا المدافع في الشام أمام العثمانيين. وأما في مصر فإن ما قام به المماليك في الريدانية هو ردم هذه المدافع بالرمال خشية الجواسيس العثمانيين، ولم تُطلق منها إلا قذيفة واحد فقط؛ طبقا لابن زُنْبُل.

    على أن المؤرخ ابن إياس الحنفي يذكر -في ‘بدائع الزهور‘- عن آخر السلاطين المماليك طومان باي -وهو معاصر لحكمه- اهتمامَه الكبير بصناعة المدافع وذخائرها وعربات نقلها؛ فيقول: “وكان هذا السلطان له عزم شديد في عمل هذه العجلات وسَبْكِ المكاحل (= المدافع) وعَمَلِ البندق الرصاص، وجَمَع من الرُّماة ما لا يُحصى، وكانت له همة عالية ومقصده جميلا”!!

    وأيا ما كان الأمر؛ فإن نتائج المعركة كشفت بجلاء أن كفة التقدم العسكري كانت راجحة لصالح الجانب العثماني، لكن السلاح وحده لم يكن السبب الأساسي في سقوط المماليك؛ إذْ ظهرت خيانة كل من والي حلب خاير بك (ت 928هـ/1522م) ووالي دمشق جان بردي الغزالي (ت 927هـ/1521م)، وتذكرنا خيانة خاير بك بخيانة الأمير دمرداش (ت بعد 815هـ/1412م) والي حلب أثناء غزو تيمورلنك لبلاد الشام سنة 803هـ/1400م وتمكنه منها.

    لذا كان من أسوأ الأخطاء التي وقع فيها السلطان الغوري عدم تعيين الأكفأ على ولاية حلب الحدودية شديدة الأهمية، والتي هي خط الدفاع الأول عن السلطنة المملوكية، وقد كلفه ذلك ثمنا باهظا حين خسر في معركة مرج دابق “من أمراء مصر والشام وحلب وغير ذلك نحو أربعين أميرا” فارسا؛ وفقا لابن إياس في ‘بدائع الزهور‘.

    هذا فضلاً عن تخلف جهاز المخابرات الداخلي المملوكي الذي لم يعد فاعلاً في أخريات الدولة، وفشله في تقييم ولاء نواب السلطنة وكبار أمرائها ومدى تحملهم لمسؤولياتهم، بعكس الفاعلية القوية التي كان عليها هذا الجهاز في زمن الظاهر بيبرس في الدولة البحرية، والظاهر برقوق في الدولة البرجية.

    لقد فَقَدَ المماليك كثيرا من شرعيتهم بين الناس لأمرين أساسيين في تلك الآونة؛ الأمر الأول: هو مظالم سلاطينهم المرهقة لجميع طبقات الشعب من العامة والخاصة، وما صاحب ذلك من فساد مالي وإداري أدى إلى إسناد المناصب إلى غير المؤهلين لها بالرشوة والواسطة، مما قاد إلى تراجع فعالية مؤسسات الدولة.

    وأما الأمر الثاني: فهو ما يُروى من سعيهم للتعاون مع الصفويين الشيعة بإيران ضد العثمانيين السُّنّة، وهو ما سجله المؤرخ الشامي شمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ/1546م) بقوله -في كتابه ‘مفاكهة الخلان في حوادث الزمان‘– إن السلطان العثماني سليم الأول “اطَّلَعَ على مطالعات (= مراسلات) من سلطاننا (= قانصوه الغوري) إلى الخارجي إسماعيل الصوفي (الشاه الصفوي المتوفى 930هـ/1524م) يستعينه على قتال ملك الروم سليم خان” العثماني!!

    وكان ينبغي للمماليك -على أقل تقدير- أن يقفوا على الحياد في الصراع بين الصفويين والعثمانيين، خاصة أن الصفويين كانوا آنذاك على اتصال بالبرتغاليين رغبة منهم في التحالف معهم ضد المماليك، وهو ما وثقه المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث ابن إياس الحنفي بقوله إنه جرى في سنة 916هـ/1510م أن أحد ولاة الشام “قَبَضَ على جماعة من عند إسماعيل الصوفي (= الشاه الصفوي) وعلى أيديهم كُتُبٌ من عند الصوفي إلى بعض ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عونا على سلطان مصر، وأنهم يجيئوا إلى مصر من البحر ويجيء هو من البر…، وبعث بهم إلى السلطان” المملوكي قانصوه الغوري.

    كما فاقمت ضعفَهم العوامل الأخرى التي شرحناها سابقا مثل صراعاتهم البينية وانقلاباتهم العسكرية، وأزماتهم الاقتصادية والصحية، وتخلفهم العسكري والحضاري؛ فأدى كل ذلك إلى هزيمتهم الساحقة أمام العثمانيين في الشام أولا ثم في مصر، وأسفرت تلك الهزيمة عن نهايتهم المحتومة بانهيار دولتهم وزوال سلطانهم بمقتضى سُنن التاريخ التي لا تحابي أحدا!!



    Source link

    شاركها. فيسبوك تويتر بينتيريست لينكدإن Tumblr البريد الإلكتروني
    السابقحفتر يعين نجله صدام نائبا له | أخبار
    التالي اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟ | سياسة
    admin
    • موقع الويب

    المقالات ذات الصلة

    اعتقالات وإصابات بهجمات للمستوطنين في الضفة الغربية | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    شهداء في غارات على حي الزيتون وخيام النازحين بخان يونس | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟ | سياسة

    أغسطس 12, 2025
    اترك تعليقاً إلغاء الرد

    Demo
    الأخيرة

    حمدان بن محمد يشارك في قمة العشرين ويزور دولاً آسيوية

    يناير 14, 2020

    سفينة وقافلة وعقوبات.. إسرائيل تدخل أخيرا قفص العقوبات الغربية | أخبار

    يونيو 11, 2025

    مصر تخصص أرضا بالبحر الأحمر لاستخدامها في إصدار صكوك وخفض الدين | أخبار اقتصاد

    يونيو 11, 2025

    أول زيارة لبعثة صندوق النقد إلى سوريا منذ 2009 | اقتصاد

    يونيو 11, 2025
    أخبار خاصة
    أخبار أغسطس 12, 2025

    اعتقالات وإصابات بهجمات للمستوطنين في الضفة الغربية | أخبار

    12/8/2025-|آخر تحديث: 06:12 (توقيت مكة)اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي -فجر اليوم الثلاثاء- 3 فلسطينيين خلال اقتحمها…

    شهداء في غارات على حي الزيتون وخيام النازحين بخان يونس | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟ | سياسة

    أغسطس 12, 2025
    إتبعنا
    • Facebook
    • YouTube
    • TikTok
    • WhatsApp
    • Twitter
    • Instagram
    الأكثر قراءة
    8.9
    التكنولوجيا يناير 15, 2021

    السماعات الذكية.. أذنك أصبحت تملك حاسوبا! اشتري الآن

    85
    المنوعات يناير 14, 2021

    هل تُفكر في السفر مع أطفالك؟ اجعلها تجربة مميزة

    72
    اقتصاد يناير 14, 2021

    خطة طوارئ لاستدعاء الجيش وخسائر منتظرة بالمليارات..

    Demo
    الأكثر مشاهدة

    حمدان بن محمد يشارك في قمة العشرين ويزور دولاً آسيوية

    يناير 14, 20204 زيارة

    سفينة وقافلة وعقوبات.. إسرائيل تدخل أخيرا قفص العقوبات الغربية | أخبار

    يونيو 11, 20252 زيارة

    مصر تخصص أرضا بالبحر الأحمر لاستخدامها في إصدار صكوك وخفض الدين | أخبار اقتصاد

    يونيو 11, 20251 زيارة
    اختيارات المحرر

    اعتقالات وإصابات بهجمات للمستوطنين في الضفة الغربية | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    شهداء في غارات على حي الزيتون وخيام النازحين بخان يونس | أخبار

    أغسطس 12, 2025

    اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟ | سياسة

    أغسطس 12, 2025

    مع كل متابعة جديدة

    اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً

    © 2025 جميع الحقوق محفوظة.
    • الرئيسية
    • السياسة
    • الرياضة
    • التكنولوجيا

    اكتب كلمة البحث ثم اضغط على زر Enter