“ليتل بوي” هي أول قنبلة نووية صُنعت في التاريخ، وأول سلاح نووي يُستخدم فعليا في الحروب، ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس/آب 1945، وتسببت بانفجار بلغت قوته التدميرية ما يعادل 15 ألف طن من مادة تي إن تي.
وأسفر الانفجار عن تدمير ثلثي مدينة هيروشيما ومقتل نحو 70 ألف شخص على الفور، بينما تسببت التأثيرات طويلة الأمد للإشعاع النووي في ارتفاع متواصل لعدد الضحايا ليصل في نحو 5 أعوام إلى ما لا يقل عن 200 ألف شخص.
وكان إطلاق أميركا قنبلة “ليتل بوي” عاملا حاسما في استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، إذ قبلت استسلاما غير مشروط بعد نحو أسبوع واحد من القصف، ومع مطلع سبتمبر/أيلول من العام نفسه، تم توقيع وثيقة الاستسلام التي أنهت الحرب رسميا.
وعلى الرغم من إنتاج 5 قنابل أخرى من طراز “ليتل بوي”، لم يُستخدم أي منها في أي عمليات عسكرية لاحقة، وبقيت قنبلة هيروشيما واحدة من قنبلتين نوويتين فقط استُخدمتا في الحروب عبر التاريخ، وأما الثانية فهي قنبلة “فات مان”، التي ألقيت على ناغازاكي اليابانية في الأسبوع نفسه.
خلفية تاريخية
انطلقت الأبحاث الأولى الناجحة في مجال الانشطار النووي من ألمانيا، إذ اكتشف العالمان الألمانيان أوتو هان وفريتز ستراسمان في ديسمبر/كانون الأول 1938 عملية الانشطار النووي، التي تحدث عن طريق قصف اليورانيوم بالنيوترونات (جسيمات دون ذرية متعادلة الشحنة توجد في نوى الذرات).
وتُسبب عملية القصف انقسام نواة اليورانيوم إلى نصفين متساويين تقريبا، منتجة بذلك نظيرا أخف مع إطلاق قدر كبير من الطاقة، كما ينتج عن الانقسام بعض النيوترونات الحرة التي تحفز تفاعلا متسلسلا يؤدي في نهاية المطاف إلى انفجار هائل.
وسرعان ما انتقلت نتائج تلك الأبحاث إلى الولايات المتحدة، ولاقت هناك اهتماما بالغا. وفي عام 1939، سعت مجموعة من العلماء الأميركيين، كان العديد منهم لاجئين من دول أوروبية، إلى إنشاء مشروع يهدف إلى تطوير عمليات الانشطار النووي لأغراض عسكرية.
استطاع العلماء إقناع ألبرت آينشتاين بالانضمام إليهم واستغلال نفوذه لإقناع الرئيس الأميركي حينئذ فرانكلين روزفلت بالمشروع. وفي مطلع عام 1940، وافقت الحكومة على البرنامج وخصصت له موازنة قدرها 6 آلاف دولار أميركي.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1941، وُضع المشروع تحت إشراف مكتب البحث والتطوير العلمي الحكومي في الولايات المتحدة.
وفي أعقاب انخراط أميركا في الحرب العالمية الثانية، مُنحت وزارة الحرب مسؤولية المشاركة في تنفيذ المشروع. وفي سبتمبر/أيلول 1942، عُين الفريق ليزلي ريتشارد غروفز مسؤولا عن جميع أنشطة الجيش المتعلقة بالمشروع، لا سيما الهندسية منها.
مشروع مانهاتن
بدأت الولايات المتحدة عام 1942 فعليا تطوير القنبلة الذرية الأولى التي عُرفت باسم “ليتل بوي” (أي الصبي الصغير)، وذلك في إطار مشروع سريّ أُطلق عليه اسم “مشروع مانهاتن”.
وأنشأ فيلق مهندسي الجيش الأميركي العديد من المصانع ومرافق التصنيع والمختبرات لتنفيذ المشروع، وكانت البداية في منطقة مانهاتن بنيويورك، نظرا لأن الأبحاث المبكرة في غالبها أُجريت في المنطقة ضمن النشاطات العلمية لجامعة كولومبيا.
ولاحقا، أُنشئت العديد من مرافق البحث والتطوير التي خدمت المشروع في مناطق أخرى في أنحاء البلاد، إذ اعتنت منشأة تينيسي بتخصيب اليورانيوم، بينما ركز مرفق هانفورد بواشنطن على إنتاج البلوتونيوم (عنصر كيميائي مشع يستخدم في الأسلحة النووية)، وقدمت مختبرات الأبحاث في جامعتي شيكاغو وكاليفورنيا إسهامات كبيرة في تطوير الأبحاث.

وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 1942 نفذ علماء مشروع مانهاتن أول تفاعل نووي متسلسل ذاتي الاستدامة في مختبر شيكاغو.
واختيرت منطقة لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو لإنشاء مختبر القنابل بناء على اقتراح عالم الذرة ورئيس الفريق العلمي للمشروع، جيه روبرت أوبنهايمر. وفي أبريل/نيسان 1943، بدأ مئات العلماء والمهندسين والفنيين بالتوافد إلى مختبرات لوس ألاموس.
كانت مهمة تلك المختبرات تطوير أسلوب لتجميع المواد الانشطارية المنتجة بهدف الوصول إلى كتلة فوق حرجة من معدن نقي، يمكن استخدامها لإحداث انفجار نووي. كما شمل عمل الفريق تصميم سلاح نووي قادر على دمج المواد القابلة للانشطار، مع الحفاظ على حجم يسمح بحمله وإلقائه من طائرة.
بمرور الوقت، أظهرت الحكومة الأميركية اهتماما أكبر بالمشروع، ورفعت المبلغ المخصص له من 6 آلاف دولار أميركي إلى ملياري دولار.
وفي أغسطس/آب 1943، أبرمت الولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقية تهدف إلى التعاون في مجال الطاقة الذرية أثناء فترة الحرب، إلى جانب تسريع إنجاز مشروع مانهاتن.
وبموجب الاتفاقية تأسست لجنة مشتركة تضم كلا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، مما سمح لعلماء بريطانيين وكنديين بالانضمام إلى المشروع.
التصميم ومبدأ العمل
استطاع فريق علماء مشروع مانهاتن بحلول صيف عام 1945 إنجاز التصميم النهائي للقنبلة النووية “ليتل بوي”، والذي اعتمد على جهاز تفجير يشبه المدفع.
تحتوي العلبة الرئيسية للمدفع على مدك من كربيد التنغستن، يؤدي مهمة مزدوجة هي زيادة عدد الكتل الحرجة في نواة اليورانيوم وتثبيت النواة لحظة الاصطدام لتعزيز عائد التفجير.
وكان “اليورانيوم المخصب-235” هو العنصر المستخدم لإحداث التفجير أو التفاعل الانشطاري، ولم يكن بحوزة الولايات المتحدة حينئذ منه سوى كمية تكفي لصنع قنبلة واحدة فقط.
ويعتمد مبدأ القنبلة الذرية “ليتل بوي” على إحداث تفاعل انشطاري بفعل اصطدام كتلتين من “اليورانيوم المخصب-235″، وذلك بواسطة جهاز دفع مما ينتج عنه تكوين كتلة حرجة يبدأ بها التفاعل المتسلسل.
وصممت الكتلة الأولى على شكل رصاصة من “اليورانيوم المخصب-235″، تنطلق عبر أسطوانة مدفع ملساء فتصطدم بالكتلة الأخرى، التي صُممت على شكل نتوء صلب يبلغ طوله 7 بوصات وقطره 4 بوصات، وأثناء الاصطدام تتطابق الأسطوانة بدقة فوق النتوء، مما ينجم عنه تفاعل انشطاري يُنتج كتلة حرجة.
وتتكون الكتلة الحرجة عندما ترتطم النيوترونات بنواة يورانيوم، مسببة انشطار النواة، وتصاحبها كمية هائلة من الطاقة، إضافة إلى نيوترونين أو أكثر.
وتعمل النيوترونات الناتجة عن الانقسام على الدفع نحو انشطار المزيد من نوى اليورانيوم، محدثة تفاعلا متسلسلا يستمر حتى تُصبح الطاقة المُنطلقة عن عمليات الانشطار هائلة، مما يؤدي إلى انفجار القنبلة.
وقد ضَمن تركيب المدفع أن يصل “اليورانيوم-235” إلى الكتلة الحرجة بسرعة، مما يمنع الحرارة الناتجة عن التفاعل الأول (الانشطار الأول) من تفجير كل الوقود قبل استهلاكه لإنتاج مجموعة من التفاعلات المتسلسلة.
النقل والتجميع
كان إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما أول تجربة فعلية لقنبلة “ليتل بوي”، إذ لم يُختبر القذف من المدفع من قبل، واكتفى العلماء باختبارات معملية ناجحة على نطاق محدود، منحتهم الثقة بنجاح هذه الطريقة.
وتعذر إجراء اختبار شامل لها، لأن إنتاج قنبلة واحدة يتطلب استخدام كل “اليورانيوم-235” المنقى الذي تملكه البلاد، وكان فصله عن “اليورانيوم-238” في اليورانيوم الطبيعي عملية مكلفة وصعبة.

مع ذلك، أجرى العلماء اختبارات عديدة على قنابل تحتوي على معظم المكونات، ولم يتم استخدام شيء من “اليورانيوم-235” المُنقّى، وخُصص جميع ما أُنتج حينئذ للقنبلة التي قُصفت بها هيروشيما.
ووفرت الاختبارات التي أُجريت على نماذج “اليورانيوم-235” الأولية، ضمانات بنجاح التفجير بواسطة المدفع.
وكان تصميم قنبلة “ليتل بوي” شديد الحساسية، فبمجرد تعبئة الوقود الانشطاري، أصبح تعرضها لأي اشتعال كافيا للتسبب بانفجارها بالكامل.
ولتجنب وقوع حادث كارثي قبل الوقت المحدد للتفجير، لم يتم تجميع أجزائها في الولايات المتحدة، بل نُقلت جميعها بشكل منفصل وعلى مراحل إلى جزيرة تينيان في المحيط الهادي جنوب اليابان.
نُقل اليورانيوم المخصب بشكل منفصل على متن 3 طائرات من طراز “سي-54 سكاي ماستر” إلى جزيرة تينيان الخاضعة للسيطرة الأميركية.
وكانت باقي أجزاء القنبلة بما في ذلك مدفع القذف وعلبة الهدف والبرميل وقذيفة اليورانيوم قد نقلت في 16 يوليو/تموز 1945 بالقطار من لوس ألاموس إلى سان فرانسيسكو ثم شُحنت كلها على متن الطرادة الثقيلة “يو إس إس إنديانابوليس” إلى تينيان، إلى جانب عدد من علماء وفنيي لوس ألاموس.
وصل كل من اليورانيوم المخصب والأجزاء الأخرى للقنبلة في 26 يوليو/تموز 1945 إلى الجزيرة، وجُمعت تحت إشراف الكابتن في البحرية الأميركية ويليام بارسونز، وأُجل الجزء الأخير من التجميع حتى اللحظة الأخيرة، لمنع انفجار عرضي ناتج عن تماس كهربائي أو اصطدام.
التفجير وآثاره المدمرة
حُملت “ليتل بوي” صباح السادس من أغسطس/آب عام 1945 على متن طائرة أميركية من طراز “بي-29″، ورافقتها طائرتان أخريان بهدف المراقبة.
وكان يقود القاذفة “بي-29” العقيد بول تيبيتس، وقبل إقلاعها بقليل، طلب من عامل الصيانة كتابة اسم والدته، إينولا غاي، على مقدمة الطائرة التي عُرفت لاحقا بهذا الاسم.
وبمجرد أن أقلعت “إينولا غاي” متجهة إلى مدينة هيروشيما، أضاف الكابتن ويليام بارسونز، المختص بالأسلحة، مكونات الإطلاق النهائية إلى “ليتل بوي”.
وعند تجميع القنبلة بالكامل، بلغ وزنها الإجمالي 9700 رطل (نحو4400 كيلوغرام) وطولها 10 أقدام وقطرها 28 بوصة، بينما وصل وزن نواة اليورانيوم المغلف نحو 64 كيلوغراما.
وعند الساعة 8:15 صباحا بالتوقيت المحلي، أُطلقت قنبلة “ليتل بوي” فوق هيروشيما، وبعد 43 ثانية، انفجرت على ارتفاع 1900 قدم.
ورغم أن أقل من 2% من “اليورانيوم- 235” حقق انشطارا، فإنه أحدث انفجارا هائلا، قُدِّرت قوته بـ15 ألف طن من مادة تي إن تي.
وعلى الفور، ارتفعت درجة الحرارة إلى نحو 7 آلاف درجة مئوية، صاحبها وميض ساطع وغطت المدينة سحابة سوداء ضخمة على شكل فطر ارتفعت إلى أكثر من 12 كيلومترا.
وتسبب الانفجار في اندلاع حرائق عديدة في أنحاء المدينة، سرعان ما اندمجت مُشكّلة عاصفة نارية كبيرة، اجتاحت رقعة واسعة من المدينة، وتحولت مساحة بلغت نحو 5 أميال مربعة من مركز المدينة إلى رماد.
وتدمرت بفعل القنبلة نحو 70% من مباني المدينة، وتعطلت محطات الطاقة الكهربائية والسكك الحديدية والهواتف وخطوط التلغراف.

ونظرا لانقطاع الاتصالات اللاسلكية والتلغرافية مع هيروشيما، لم تستطع الحكومة اليابانية معرفة ما حدث على وجه اليقين، وهو الأمر الذي أخّر وصول إغاثة من الخارج ساعات بعد الهجوم.
وكانت عملية الإغاثة الداخلية متعذرة، فقد دمرت القنبلة 26 مركز إطفاء من أصل 33 في المدينة، مما أسفر عن مقتل أو إصابة 3 أرباع رجال الإطفاء بجروح بالغة، وهو الأمر الذي أعاق تنفيذ إجراءات عاجلة لاحتواء الحرائق.
من جهة أُخرى، أُصيب القطاع الطبي في المدينة بالشلل، إذ تعرضت جميع المستشفيات للتدمير أو الضرر الشديد باستثناء مستشفى واحد، ولم ينج من الإصابة الشديدة أو القتل سوى 30 فقط من بين 298 طبيبا مسجلا، كما قُتل أو أصيب أكثر من 1800 شخص من أصل 2400 من طاقم التمريض.
وقدر الأرشيف الوطني الأميركي عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم نتيجة الانفجار والحرارة وآثار الإشعاع الأولي بنحو 70 ألف شخص، بما في ذلك 20 طيارا أميركيا كانوا محتجزين في المدينة.
ونتيجة للآثار المدمرة طويلة الأمد للإشعاعات النووية، والتي من أخطرها السرطانات التي انتشرت بشكل ملحوظ في المدينة، تجاوز عدد ضحايا هيروشيما في نهاية عام 1945 ما مجموعه 100 ألف فرد، وفي 5 سنوات تجاوز إجمالي عدد الضحايا 200 ألف، بحسب بيانات الأرشيف.