قاد نشر كل من حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في قطاع غزة شريطين مصورين عن حالة أسيرين لدى جناحيهما العسكريين ردود فعل عاصفة في إسرائيل، توجهت غالبا نحو الحكومة الإسرائيلية ذاتها.
فأغلب عائلات الأسرى، التي مس الشريط أعصابها الأشد دقة، ردت بأن حكومة نتنياهو هي من عرقل حتى الآن إبرام صفقة كاملة أو جزئية، تحرر أبناءها من الأسر ولو مقابل وقف الحرب. غير أن حكومة “التخلي”، كما توصف في إسرائيل، وجّهت أصابع الاتهام، كالعادة، نحو “البرابرة” الفلسطينيين من جهة، ونحو الرأي العام العالمي والصحافة الدولية، وحتى نحو الدول التي تميل للاعتراف بفلسطين.
وواضح أن نشر الشريطين المصورين خلق صورة واضحة، عما يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا ما استمرت الحرب، بعدما ظهر أسير نحيف الجسم “يحفر قبره” بنفسه.
وقد أيقظ الشريطان أغلبية الإسرائيليين من حالة السبات والإنكار التي يعيشونها تجاه آلام ومظالم الشعب الفلسطيني، فشريط سرايا القدس من الجهاد الإسلامي تناول حالة أسير قد يكون تعرض هو وآسروه للقصف والتدمير من جانب الجيش الإسرائيلي، عندما انقطع الاتصال بهم.
أما شريط كتائب عز الدين القسام فألمح أساسا عبر نحافة جسم الأسير الإسرائيلي وشعار “يأكلون مما نأكل” إلى المجاعة السائدة في قطاع غزة، جراء سياسة منهجية إسرائيلية لتجويع القطاع.
ذعر
في ظل خيبات الأمل التي سُجلت حتى الآن من مفاوضات صفقة التبادل، والفيديو الذي نشرته حماس، والذي يظهر فيه المخطوف إيفيتار ديفيد في حالة بدنية بالغة الخطورة، حيث برزت عظامه، أعرب أفراد عائلات المختطفين عن مشاعرهم الصعبة وخوفهم الشديد على حياة أبنائهم.
وقال كثير من أهالي الأسرى الإسرائيليين، في أول انطباع لهم، إنهم شعروا بالرعب جراء التفكير في أحبائهم، من دون أن يخطر ببال بعضهم أن هذا هو حال أغلبية الأسر الفلسطينية في القطاع، وهذا ما دفع بعض أهالي الأسرى الإسرائيليين للمطالبة لاحقا بوجوب السماح بإدخال الغذاء لأهالي القطاع حتى لا يموت أبناؤهم جوعا.
وأدى ذلك إلى حشد واحدة من أكبر التظاهرات الداعية لوقف الحرب وإبرام الصفقة الشاملة في تل أبيب، فضلا عن تظاهرات أغلقت فيها الشوارع الرئيسية، وكانت الشعارات الرئيسية تنادي بأن الوقت ينفد، وأنه لم يبقَ للأسرى الإسرائيليين مناص، ويجب إعادتهم إلى الحياة، وأن التخلي عن الأسرى هو نوع من “خراب الهيكل الثالث”.

وهاجم وزير الاتصالات السابق يوعاز هندل الحكومة والقيادة السياسية، وما أسماه “السلوك المتهور وانعدام القيادة”. وفي مقابلة مع إذاعة 103FM، قال إن البلاد تسودها حاليا حالة من الضبابية السياسية، حيث “لا نستطيع تحديد الأهداف. اليوم هو ذكرى التاسع من آب، والانقسام الأكبر في البلاد لا يتعلق بتدمير حماس، بل بقضية المخطوفين، وهذا هو الأمر المؤلم”.
وتابع “الانقسام حول قضية المخطوفين ينبع من وجود هذا الضباب. هناك جهات هنا تنظر إلى المخطوفين على أنهم معارضون سياسيون، وعائق أمام تحقيق أهدافهم، وهذا أمر مؤلم”.
ورأت افتتاحية “هآرتس” أن شريط إيفيتار ديفيد الذي نشرته حماس يوم الجمعة، ويظهر فيه في وضع جسدي صعب، والشريط الذي نشرته قبل ذلك الجهاد الإسلامي، لروم بريسلافسكي، لا يتركان مكانا للشك. زمنهم ينفد. فالخطر الذي يحوم فوقهم ليس فقط خطر الجوع والمرض.
ولاحظت أنه “رغم ذلك يبدو أن عدم اكتراث الحكومة لعذابات المخطوفين وعائلاتهم يتعزز فقط. عندما قالت أم الجندي المخطوف متان انجرست، عنات، لمنسق الأسرى غال هيرش إن ابنها “يصبح جلدة وعظمة”، رد عليها “هذه دعاية حماس”. يا هيرش، هذه ليست دعاية حماس. هذا توثيق لمخطوف لا تنجح إسرائيل -ومشكوك جدا إذا كانت تحاول على الإطلاق- بإعادته إلى الديار، بعد نحو سنتين من حرب يزعم أنها تستهدف ذلك أيضا”.
وأضافت “ليس هذا فقط، وزراء في الحكومة يريدون التوقف عن الحديث عن المخطوفين والبدء بالحديث عن “أسرى”. فقد أعلن الوزير عميحاي الياهو بأن “الأسرى لا يعنى بهم إلا في نهاية النصر”، فأي نصر؟ فاذا كان المقصود هو تقويض حماس (وبالتفسير الإسرائيلي: قتل وطرد كل الغزيين)، فمع من بالضبط ستنفذ “صفقة أسرى” في نهاية الحرب؟”.
حسابات متعارضة
وأغلبية الإسرائيليين، كما تظهر استطلاعات الرأي بنسبة تزيد عن 60%، ترغب في وقف الحرب وإبرام اتفاق لتبادل الأسرى وهي تضغط في هذا الاتجاه. وكذلك فإن قيادة الجيش تبذل جهودا كبيرة بلغت حد التلميح باحتمال استقالة رئيس الأركان الجنرال إيال زامير، إذا لم تقرر الحكومة إنجاز صفقة تبادل جزئية أو شاملة.
غير أن حسابات حكومة نتنياهو مغايرة كليا لحسابات الشارع الإسرائيلي، فقد فوجئ الإسرائيليون بأن أول بند في الاجتماع الرسمي لحكومة نتنياهو يوم الأحد كان مناقشة الإجراءات الأمنية حول نتنياهو وأفراد عائلته، كما أن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لم يجد أشد إثارة من اقتحام الأقصى والصلاة هناك هو وعدد آخر من الوزراء، وبطريقة تخالف ما يسمى بـ”الوضع القائم” وضد التعليمات الرسمية.

كما علّق وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يعارض إبرام أي صفقة تعيد الأسرى وتتضمن إنهاء الحرب، على الشريطين قائلا “من منا لا ينفطر قلبه لرؤية الصور التي تعكس الوضع الصعب لإيفيتار ديفيد، الذي يعامله نازيو حماس بقسوة لا إنسانية؟ إن هدف حماس من نشر فيديوهات الرهائن ليس منحنا إشارة على الحياة، بالطبع، بل التلاعب بمشاعرنا، وإساءة معاملة عائلاتنا، وتمزيق قلوبنا، ومن خلال إرهاب التلاعب، الضغط علينا للاستسلام ووقف الحرب قبل أن تُدمر”.
وأضاف سموتريتش “بالطبع، هذا لن يحدث. يجب أن يكون الرد على هذه الإساءة الوحشية للرهائن هو الإبادة الكاملة لهذا الشر المطلق من على وجه الأرض، وإعادة جميع الرهائن دون أي شروط. فورا، بكل قوتكم ودون توقف للحظة. امحوا ذكرى عماليق من تحت السماء”.
كما أن وزير الخارجية جدعون ساعر وجّه رسالة عاجلة إلى زملائه حول العالم، داعيا إياهم إلى المطالبة بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين في ضوء المشاهد المؤلمة التي تعرض لها كل من الأسيرين إيفيتار ديفيد وروم بريسلافسكي.
ودعا ساعر زملاءه إلى التعبير عن موقف أخلاقي علني، وبذل كل جهد ممكن لوضع حد للمعاناة الفظيعة التي يعيشها الرهائن الإسرائيليون، بل ذهب أبعد من ذلك ليطالب بإجراء نقاش خاص في مجلس الأمن الدولي، حول قضية الأسرى الإسرائيليين ووضعهم.
وقال “لا يمكن للعالم أن يصمت أمام الصور المروعة الناتجة عن الانتهاكات السادية المتعمدة للرهائن، بما في ذلك التجويع الذي مارسته حماس والجهاد الإسلامي”، وقد تجاهل في دعوته أن تجويع الأسرى الفلسطينيين وتعذيبهم في السجون الإسرائيلية وبعضها تحت الأرض، كما في سجن الرملة، سياسة رسمية للدولة العبرية.
الطريق إلى الجحيم
وهكذا فإن الرسالة الإسرائيلية الرسمية واضحة أشد الوضوح: مهما حدث ويحدث لا نزال نسير في الطريق الذي عبدناه سويا، والذي يقود في نظر كثيرين إلى الجحيم، ولذلك رأت إسرائيل وجوب مهاجمة كل الجهات إلا نفسها، والتشديد بشكل خاص على وسائل الإعلام الدولية المهمة التي لم تشعر أن شريطي الأسيرين الإسرائيليين يمكن أن يحرف الأنظار عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
واستهدفت الخارجية الإسرائيلية بهجومها وسائل الإعلام، خصوصا BBC وCNN ونيويورك تايمز وديلي إكسبريس، وحاولت أن تجعل كل هؤلاء يسيرون خلف دعايتها كما فعلت صحيفة “نيويورك بوست”.
وتعدّ حملة وزارة الخارجية جزءا من جهد أوسع تقوده إسرائيل حاليا، في ضوء ما تراه “تجاهلا إعلاميا خطيرا للجوانب الأخلاقية لخطف الرهائن”. وتجمع الوزارة بين دبلوماسية الاستجابات، والترويج العلني، ونشر مواد بصرية فعّالة، بهدف تغيير طبيعة التغطية الإعلامية العالمية، حتى وإن بدت المهمة معقدة للغاية، فإسرائيل لا تزال ترى أن مشكلتها ليست جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وإنما ضعف الدعاية الـ”هسبراه”.

اللوم على حكومة نتنياهو
علّق بن كسبيت في “معاريف” على الشريطين، فكتب “عندما يُخصص البند الأول في اجتماع مجلس الوزراء غدا لـ”التهديدات الموجهة لرئيس الوزراء وعائلته” وليس للوضع المروع لرهائننا الذين يتضورون جوعا في أنفاق غزة، عليك أن تسأل نفسك: هل هذا كابوس أم خدعة؟”.
وقال “لا شيء يُهيئك لمقاطع الفيديو المرعبة التي تُظهر روم بريسلافسكي وإيفيتار ديفيد وهما يصارعان الموت في أنفاق حماس. هذان الشابان، اللذان اختطفهما متوحشون بشريون وهما بصحة جيدة وقوة وابتسامة، أصبحا الآن مجرد هيكلين عظميين. من المستحيل ألا نتذكر الناجين من تلك المعسكرات في أوروبا قبل 75 عاما. أكياس من الجلد والعظام الهزيلة، يذوون ويموتون، يتلاشى ويتلاشى – والعالم صامت”.
كما أن رئيس الأركان الأسبق الجنرال غادي آيزنكوت كتب إلى رئيس الأركان الحالي “سيدي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، لم أتخيل يوما أننا سنرى صورا ليهود يحتضرون، ولن يكون هناك منقذ”.
وأكيد أن آيزنكوت يعرف بعضا مما تحدث عنه المراسل العسكري لـ”معاريف” آفي أشكنازي عن أنهم في قيادة الجيش الإسرائيلي محبطون من سلوك كبار رجالات المستوى السياسي، ويقولون “في هذه اللحظة لا يسمحون لنا بعرض الخطة لإقرار الكابينت. نحن لا نعرف ما يريده المستوى السياسي. نحن لا نعرف ما يريده رئيس الوزراء ووزير الدفاع. إلى أين يقودان استمرار القتال في غزة؟ الأمر الوحيد الذي نعرفه هو خط ثلاثة وزراء في الكابينت: بتسلئيل سموتريتش، أوريت ستروك وإيتمار بن غفير. هؤلاء يتحدثون بشكل واضح ويقولون إنه يجب احتلال كل القطاع وإقامة استيطان إسرائيلي. ما هو موقف كل أعضاء الكابينت؟ ليس واضحا لنا”.
تغييب الجيش
والجيش يبلغ الحكومة أن القوات أُنهكت بعد ما يقرب من عامين من القتال، وأن الوحدات بحاجة إلى التقاط أنفاس من جهة وإلى إعادة تدريب وتنظيم من جهة أخرى.
لذلك فإن الداعين لهجمات أشد وأقوى على القطاع من دون حساب، لا لحياة الأسرى الإسرائيليين ولا للملاحقات الدولية لمجرمي الحرب، لا يعرفون ما يدعون إليه، وصار الجيش يشتكي من أنه بات مغيبا عن معرفة الصورة والوجهة، وأن كل الأمور تتقرر بين نتنياهو ودريمر والأميركيين.

وكما سلف فإن الجمهور الإسرائيلي بأغلبيته، ومعه الجيش وأهالي الأسرى، في واد وحكومته في واد آخر. وكثيرون يناشدون إدارة ترامب اتخاذ القرار السليم وتوجه نتنياهو ولو إجبارا نحو حل سلمي للأزمة بعيدا عن شعارات النصر المطلق. وهذا ما حدا بنداف إيال لعنونة مقالته في “يديعوت” “مفهوم التدمير: حكومة المتعصبين ترفض المخاطر الحقيقية وتتخلى عن الأسرى”.
وفي نظره: سيكون من المستحيل السيطرة على لهيب الأصولية اليهودية، فهي تُهدد بالفعل الوجود اليهودي هنا. لا تريد الكاهانية المتعصبة عودة المختطفين الجائعين والمعذبين، وقد عملت على إحراقهم نهائيا. نتنياهو هو المسؤول، نتنياهو متعاون.