واحدة من أبرز القضايا الإعلامية والسياسية المثيرة للجدل في تونس، اتُّهمت فيها شركة إنستالينغو (المختصة بإنتاج المحتوى الرقمي والترجمة) بإدارة شبكة للتأثير في الرأي العام وتشويه شخصيات سياسية بارزة، من بينها رئيس الجمهورية، مع نفي المتهمين لهذه الاتهامات. وتوسعت التحقيقات لتشمل مسؤولين أمنيين وصحفيين وسياسيين بارزين من ضمنهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحكومة السابق هشام المشيشي.
وبينما رأت منظمات حقوقية وأحزاب أن القضية محاولة لتقييد حرية التعبير، أكدت السلطات أن الاتهامات تتعلق بجرائم مثل التشويه والتحريض وغسل الأموال. وظهرت القضية في ظل وضع سياسي متوتر بعد الإجراءات الاستثنائية للرئيس التونسي قيس سعيد في يوليو/تموز 2021.
وفي فبراير/شباط 2025، أصدرت المحكمة أحكاما بالسجن تراوحت بين 5 و54 سنة لـ41 متهما، وسط انتقادات وجهتها حركة النهضة ومنظمات دولية بأن المحاكمة سياسية وتشوبها مخالفات قانونية.
تفاصيل القضية
في 10 سبتمبر/أيلول 2021 دهمت وحدات أمنية بزي مدني مقر شركة إنستالينغو المختصة بإنتاج المحتوى الرقمي والترجمة في مدينة القلعة الكبرى بولاية سوسة، وحجزت المعدات التقنية ووحدات تخزين مركزية. وحققت الجهات الأمنية مع موظفي الشركة من مترجمين وصحفيين وإداريين بعد حجز هواتفهم على مدى 3 أيام.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، أوقفت السلطات التونسية عددا من العاملين في الشركة، وكان من بينهم مؤسس الشركة هيثم الكحيلي وزوجته.
وتركزت التحقيقات على الرابط الاقتصادي بين الشركة وبعض الشخصيات السياسية وصحفيين ومدونين، واعتبرت السلطات أن تلك الشبكات استُخدمت لتمويل حملات إعلامية تهدد استقرار الدولة.
وفي مارس/آذار 2022، أصدرت دائرة الاتهام بطاقات إيداع بالسجن في حق 4 موظفين بالشركة، وذلك على الرغم من أن قاضي التحقيق كان قد قرر في مرحلة أولى إبقاءهم في حالة إطلاق سراح.
ووُجهت للموقوفين تهم تتعلق بـ”تبديل هيئة الدولة” و”حمل السكان على مواجهة بعضهم البعض بالسلاح” و”إثارة الهرج والقتل والسلب” و”ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة” و”المؤامرة لارتكاب اعتداءات ضد أمن الدولة الداخلي”.
وفي يونيو/حزيران 2022، تسلمت المحكمة الابتدائية بسوسة تقريرا من لجنة التحاليل المالية أشار إلى وجود شبهة غسل أموال ومعاملات مالية مشبوهة داخلية وخارجية بين عدد من المشتبه بهم. وعلى أثر ذلك، فُتحت تحقيقات قضائية جديدة أفضت إلى توقيف 9 متهمين، من بينهم الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي، إلى جانب عدد من الصحفيين والمدونين.
إعلان
ولاحقا، توسعت دائرة التحقيقات لتشمل 28 شخصا إضافيا، ليصل العدد إلى 41 متهما من بينهم رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، والقيادي في الحركة السيد الفرجاني.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، قررت المحكمة الابتدائية بسوسة التخلي عن النظر في القضية وإحالتها إلى القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس العاصمة.
السياق السياسي
تزامنت قضية إنستالينغو مع قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، التي تمثلت بإقالة حكومة هشام المشيشي، وتجميد اختصاصات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وتعليق عمل المحكمة الدستورية، وحل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بهيئة مؤقتة تحت سيطرة السلطة في فبراير/شباط 2022.
واعتبر حقوقيون وسياسيون هذه الإجراءات انقلابا على الدستور، وتصاعدت حملة الحكومة ضد ما سمتها “منظومة الفساد الإعلامي والسياسي”، ووُضعت شركة إنستالينغو ضمن هذا السياق.
وقالت جهات مقربة من السلطة إن الشركة لم تكن مجرد مؤسسة إعلامية، بل جزءا من شبكة تأثير سياسي وإعلامي تعمل لصالح أطراف داخل السلطة السابقة، وقد تكون مرتبطة بجهات خارجية.
ومن جهة أخرى، رأى محللون أن القضية تعكس صراع مراكز القوى داخل “الدولة العميقة”، وتحمل أبعادا أعمق من مجرد مخالفات إعلامية، إذ تمثل معركة لإعادة ترتيب المجال العمومي في تونس وفرض تصور جديد لحرية الإعلام وأمن الدولة، عبر تحييد خصوم الرئيس وأدواتهم، وعلى رأسهم حركة النهضة.
أبرز الاحكام الصادرة
أصدرت المحكمة التونسية في 5 فبراير/شباط 2025 أحكاما قضائية بحق 41 متهما في قضية “إنستالينغو”، من بينهم شخصيات بارزة في السياسة والإعلام والأمن. وتنوعت الأحكام بين السجن والغرامات ومصادرة الممتلكات، وشملت أحكاما حضورية وأخرى غيابية.
ومن بين أبرز الأحكام، الحكم بالسجن 22 سنة مع غرامة 80 ألف دينار ومصادرة الأملاك بحق رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي. كما حُكم على رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي بالسجن 35 سنة، وعلى مدير المخابرات السابق لزهر لونقو بالسجن 15 سنة وغرامة 300 ألف دينار، إضافة إلى المنع من الترشح للانتخابات لعشر سنوات.
وشملت الأحكام أيضا الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي بالسجن 13 سنة، والمسؤول الأمني توفيق السبيعي بالسجن 8 سنوات، والصحفية شذى الحاج مبارك بالسجن 5 سنوات، والصحفية شهرزاد عكاشة بالسجن 27 سنة، والمدونَين سليم الجبالي وأشرف بربوشوكان بالسجن 12 و6 سنوات على التوالي.
ومن بين المسؤولين والسياسيين الآخرين وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام الذي حُكم بالسجن 35 سنة، والقيادي في النهضة السيد الفرجاني بالسجن 13 سنة مع غرامة 50 ألف دينار ومصادرة ممتلكاته، والوزير السابق رياض بالطيب بالسجن 8 سنوات.
أما المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي، فحُكم يحيى الكحيلي بالسجن 18 سنة مع غرامة 50 ألف دينار ومصادرة أملاكه، وحُكم سالم الكحيلي بالسجن 54 سنة، وحُكم مؤسس شركة إنستالينغو هيثم الكحيلي بالسجن 38 سنة مع غرامة 80 ألف دينار.
كما حصل معاذ الغنوشي ابن رئيس حركة النهضة، على حكم بالسجن 35 سنة، وسمية الغنوشي ابنته ومديرة موقع إلكتروني، بالسجن 25 سنة، وعلى الوزير السابق من حركة النهضة لطفي زيتون بالسجن 35 سنة، وعلى رئيس منتدى الشرق وضاح خنفر بالسجن 32 سنة مع غرامة 80 ألف دينار.
إعلان
ردود الفعل
وبينما رحب أنصار الرئيس التونسي بالأحكام واعتبروا أنها كشفت تورط حركة النهضة في حملات تشويه ضد خصومها، وصف حقوقيون وسياسيون الأحكام بأنها “سياسية” واعتبروا أن القضاء استُخدم لتصفية حسابات سياسية خصوصا ضد قيادات النهضة.
وعقب صدور الأحكام في القضية، قال حزب النهضة في بيان إن ما حدث هو “محاكمة سياسية ظالمة تأتي في سياق مزيد من التشفي والاعتداء على الحقوق والحريات وتُمثل انتهاكا صارخا لاستقلالية القضاء”.
وأوضحت الحركة أن شركة “إنستالينغو” مختصة بإنتاج المحتوى الإعلامي والصحفي بما في ذلك الترجمة، وتقدم خدمات إعلامية متنوعة منها المشاركة في الحملات الانتخابية لعدد من المترشحين للحملات الانتخابية الرئاسية لسنة 2019، وليس من بينهم مرشح حركة النهضة في تلك الانتخابات.
وأضافت أن “هذه القضية شملت عددا من السياسيين وأعضاء الحكومات السابقين وموظفي الدولة والصحفيين والمدونين، ولا علاقة لعدد منهم ببعضهم البعض، ولم تثبت المحكمة هذه العلاقة بينهم”.
ودعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان السلطات التونسية إلى وقف اضطهاد المعارضين واحترام حرية التعبير، وطالب بالإفراج عن كبار السن والمرضى. وذكر المتحدث باسم المفوضية أن المحاكمة شهدت انتهاكات مزعومة للعدالة، وحث تونس على تعديل قوانينها لتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.