يسير راميز نوكيتش وحيدا عبر غابات البوسنة الكثيفة، حاملا أكياسا بلاستيكية وأدوات بسيطة، باحثا عن شيء لا يراه معظم الناس ولا يريدون رؤيته.
إنه يبحث عن رفات بشرية، عن عظام متناثرة، عن أي أثر يدل على المأساة التي وقعت هنا قبل أكثر من 20 عاما في واحدة من أبشع مذابح الإبادة الجماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وتحول نوكيتش من ناجٍ من مذبحة سربرنيتسا عام 1995 إلى واحد من أكثر الباحثين إصرارا عن رفات ضحايا هذه المأساة، إذ فقد والده وأخويه في تلك الأيام المظلمة، وأصبح منذ ذلك الحين يقضي حياته في البحث ليس فقط عن رفاتهم، بل عن رفات آلاف الضحايا الآخرين الذين لا تزال عائلاتهم تنتظر إجابات.
وسلطت حلقة (2025/7/10) من سلسلة “أفلام الجزيرة” الضوء على رحلة إنسانية يبحث خلالها نوكيتش عن العدالة ويتابع في رحلاته اليومية عبر المناطق التي شهدت أعمال القتل الجماعي، باحثا عن شهادة حية على المأساة وعلى الإصرار الإنساني على عدم النسيان.
نشأ نوكيتش في قرية كامينتسا، وهو يعرف كل شجرة في هذه الغابات التي أصبحت مسرحا للمأساة، ويقول وهو يشير إلى المناطق المحيطة: “أحفظ كل شجرة من شجرات الغابة، بل والمنطقة بأسرها عن ظهر القلب”.
وشهدت تلك المنطقة في يوليو/تموز 1995 أحداثا مرعبة عندما سقطت سربرنيتسا في أيدي قوات صرب البوسنة، وفر الرجال والشباب عبر الغابات أملا في الوصول إلى المناطق الآمنة، لكن معظمهم قُتلوا في كمائن منظمة.
ويتذكر نوكيتش تلك الأيام بألم: “تعرضنا لإطلاق نار كثيف من جميع الجهات، ولم ندر ماذا يجري من حولنا، وحتى يومنا هذا لا أزال أسمع صراخ من كانوا حولي”.
واستغرق الأمر 6 سنوات بعد انتهاء الحرب حتى عاد نوكيتش إلى منطقته، ووقف في المكان الذي كان منزله ولم يتمكن من التعرف عليه بسبب كثافة النباتات التي نمت فيه، وفي عام 2001، عثر على أول هيكل عظمي قرب منزله، وكانت تلك بداية رحلة بحث لم تنته حتى اليوم.
وبدأ بحثه عن رفات والده وأخويه، لكنه سرعان ما وسع نطاق بحثه ليشمل أي رفات يمكن أن تقدم الراحة لعائلة أخرى.
ويوضح دوافعه قائلا: “تماما مثلما أتألم لفقدان والدي وأخوي، فغيري كثيرون يتألمون لفقد فرد أو أفراد من أسرتهم”.
الجهود الرسمية
وتطور عمل نوكيتش ليصبح جزءا من الجهود الرسمية للبحث عن المفقودين، وأصبح يتعاون مع معهد الأشخاص المفقودين في البوسنة والهرسك، ومع مكتب المدعي العام في عمليات استخراج الرفات وفحصها.
وعندما يعثر على أي رفات، يتصل فورا بالسلطات المختصة التي تتولى العمليات الجنائية والطبية اللازمة.
وتشكل التطورات في تقنيات الطب الشرعي، خاصة فحوصات الحمض النووي، أملا جديدا في تحديد هوية الضحايا حتى لو كانت الرفات متحللة بشدة، ورغم مرور أكثر من عقدين على المذبحة، لا تزال فرق الطب الشرعي تتمكن من تحديد هويات الضحايا وإعادتهم إلى عائلاتهم.
وتحمل كل عظمة يعثر عليها نوكيتش قصة إنسانية، إذ يجد أحيانا مستندات شخصية أو صورا عائلية بين الرفات، وهذا يضيف بعدا شخصيا مؤثرا لعمله.
وتذكره هذه الاكتشافات وتذكر العالم بأن هؤلاء لم يكونوا مجرد أرقام، بل أشخاص حقيقيون لهم عائلات وأحلام وذكريات.
ورغم نجاحه في العثور على رفات والده وأخويه ودفنهم، واصل نوكيتش بحثه، وهو يدرك أن هناك مئات العائلات لا تزال تنتظر، وأن كل عظمة يعثر عليها قد تعني إغلاق فصل مؤلم في حياة أسرة.
وتشير إحصائيات معهد الأشخاص المفقودين إلى العثور على رفات حوالي 7 آلاف شخص من أصل أكثر من 8 آلاف قتلوا في المذبحة، وهذا يعني أن أكثر من ألف شخص لا يزالون في عداد المفقودين، وهذا يجعل مهمة أشخاص مثل نوكيتش أكثر إلحاحا.
ويستمر نوكيتش في رحلاته اليومية عبر الغابات، وهو في الـ67 من عمره الآن، ويدرك أن الوقت يعمل ضده، لكنه مصمم على المواصلة، لأنه يرى أن هذا ليس مجرد عمل أو هواية، بل رسالة حياة ووعد قطعه على نفسه للموتى وللأحياء على حد سواء.
17/7/2025–|آخر تحديث: 18:42 (توقيت مكة)