اسم المفكرة والناقدة اللامعة جوليا كريستيفا (مواليد بلغاريا 1941) ليس غريبا على القارئ العربي، إذ يتكرر في الأوساط العربية وغير العربية في عدة سياقات ومجالات علمية ونقدية؛ من النقد الأدبي الحداثي وما بعد الحداثي، إلى اللسانيات والدراسات اللغوية، مرورا بالتحليل النفسي الذي شكل اختصاصا مهنيا وتأليفيا موسعا في حياتها، وصولا إلى الحركة النسوية المعاصرة التي أدرجت كريستيفا ضمن الشخصيات المؤثرة في تطورها، واستلهمت كتاباتها النفسية قبولا وجدلا في مجالات نسوية متعددة.
ولكن، بالرغم من الشهرة الواسعة لكريستيفا، فإن مؤلفاتها الأساسية التي زادت على الثلاثين لم تحظ بالترجمة إلى العربية بشكل منظم، شأنها في ذلك شأن أسماء لامعة كثيرة في مختلف حقول المعرفة العالمية. أربعة من كتبها ترجمت باجتهادات فردية في الغالب إلى العربية، وهي: علم النص (ترجمة فريد الزاهي)، قصص في الحب (ترجمة محمود بن جماعة)، الحاجة المذهلة إلى الاعتقاد (ترجمة حنان درقاوي)، والكتاب الرابع هو كتابها المهم المتعلق بالتحليل النفسي للأدب والدين والأنثروبولوجيا، وقد ترجمته الأكاديمية الأردنية د. عرين خليفة، ونشر مؤخرا عن دار أزمنة في عمان.
يضاف إلى ذلك ترجمة بعض مقالاتها وفصول متفرقة مختارة من كتبها، كما ترجمت طائفة من الحوارات التي اشتهرت كريستيفا بمهارتها فيها، وتعاملت معها بجدية بوصفها منصة أخرى تشرح من خلالها أفكارها واستبصاراتها التي تفيض بالجدة والذكاء والإضافة. هذا تقريبا كل ما ترجم لها عن الفرنسية أو الإنجليزية، التي حظيت بالترجمة الموسعة إليها منذ بدء زياراتها العلمية للأوساط الأكاديمية الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين، كأستاذة زائرة في جامعة كولومبيا العريقة.

تكوين كريستيفا العلمي والنقدي مر بمراحل ومؤثرات مركبة. فقد درست في موطنها الأول (بلغاريا) إبان المرحلة الشيوعية حتى أنهت دراستها الجامعية الأولى. ويبدو أن توجيها عائليا من والدها ووالدتها قد أثمر عن إتقانها الفرنسية والإنجليزية مبكرا، إلى جانب الروسية والبلغارية بطبيعة الحال، حتى أتمت دراستها في مجال اللغات. وقد أهلتها قدرتها المتفوقة للحصول على بعثة أو منحة من الحكومة الفرنسية عام 1965، فانتقلت إلى باريس بقصد إتمام الدراسات العليا.
ومن الواضح أنها، فور وصولها، قد ارتبطت بأفضل ما في باريس وحلقاتها العلمية والثقافية، وكان ذكاؤها وثقافتها المتشعبة، إلى جانب سجاياها الشخصية، سببا في قبولها والترحيب بها في دوائر يصعب اختراقها. غدت جزءا من حركة مجلة تيل كيل (Tel Quel)، وضمنها تعرفت إلى زوجها الروائي والأديب المؤسس والمحرر للمجلة فيليب سوليرز (1936-2023)، الذي لا شك في دوره الحاسم في اندغامها بمجتمعها الجديد وبكثير مما حققته وأنجزته من عطاء.
كان حضوره في حياتها بمنزلة اليد الأليفة التي وصلتها بأفضل ما في باريس من خلال علاقات فيليب نفسه بالنخبة الباريسية اللامعة: رولان بارت، ودريدا، وفوكو، وجينيت، وجاك لاكان، وغيرهم.
شهدت كريستيفا في سنيها الباريسية الأولى ثورة الطلبة والعمال المعروفة بحركة مايو 1968، هذه الحركة المرتبطة بالتمرد والتغيير وبدور الشباب والطلبة. لكنها -كما تقر- لم تكن جزءا منها لحداثة وصولها إلى باريس ونظرتها إليها من موقع “الأجنبية”.
لكنها كانت تتفهم ما سبقها وما تبعها من تغييرات وأحوال. كما أن ما اتجهت إليه كريستيفا نفسها في مرحلة ما بعد الثورة لا يمكن فصله عن مناخات الثقافة الفرنسية نفسها وما فرضته من تغييرات حاسمة في الجامعة والثقافة والمجتمع.

قوى الرعب: دراسة في الدناءة
جاءت ترجمة الكتاب المتميز بين مؤلفاتها (قوى الرعب: دراسة في الدناءة) إلى العربية بجهد طوعي اختياري من الناقدة والمترجمة والأستاذة الجامعية الأردنية د. عرين خليفة، عبر ترجمة وسيطة عن اللغة الإنجليزية، مستندة في تسويغ هذا الاختيار إلى دقة الترجمة الإنجليزية التي أنجزها ليون روديز، رئيس قسم اللغة الفرنسية بجامعة كولومبيا.
وقد ترجم لكريستيفا سبعة كتب، نشرتها جامعة كولومبيا التي استقبلت كريستيفا كأستاذة زائرة في عدة مواسم تعليمية، واحتفت بجهدها العلمي وأسهمت في نقله مبكرا إلى الثقافة الإنجليزية، مما سمح لأفكارها وكتاباتها بالانتقال إلى مدى قرائي وبحثي واسع لم يقتصر على جمهور اللغة الفرنسية.
تعد هذه الخطوة في ترجمة هذا الكتاب الصعب خطوة طيبة للإطلالة على عالم جوليا كريستيفا؛ العالم الشيق والشاق، السهل الممتنع، المتجول والعابر بين حقول اختصاص متشعبة. تؤكد لنا هذه الترجمة أن رحلة كريستيفا بين اللغات والثقافات قد انعكست في صورة هوية ثقافية مترحلة لم تعد تعترف بالاختصاص الضيق أو الدقيق، لصالح هذا الضرب المتداخل الذي يقتضي منها الإحاطة بحقول متباعدة والتعمق فيها، قبل أن تؤلف وتحاضر وتتجه إلى القارئ بما لديها.
ولكن من قرأ شيئا من سيرتها وتكوينها وتفاصيل حياتها، التي ارتبطت بظروف بلادها أولا (بلغاريا) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظروف أوروبا الشرقية ثم الغربية التي هاجرت إليها ثم استقرت فيها نهائيا، يعرف أنها امرأة لامعة العقل، متحدية، غاية في الذكاء والمقدرة على تنسيق هذه الصعوبات والتكيف معها برضا ومتعة.
وينتمي هذا الكتاب إلى مسار التحليل النفسي الذي اهتمت به كريستيفا وانتمت إليه مبكرا بعيد فراغها من دراستها الأدبية والنقدية. ويبدو لنا أنها أقرب ما تكون إلى تلميذة غير معلنة لجاك لاكان، الذي لم يكن بعيدا عن صلاتها، وكانت حلقاته و(سيمناراته) الغريبة تملأ النشاط النفسي في باريس.
وكريستيفا تعترف بأنها بدأت نشاط التحليل النفسي بوصفها “مريضة”، عرفت أريكة التحليل النفسي بهذه الوضعية الأولية، ثم أهلت نفسها لتكون معالجة أو محللة نفسية تستقبل المرضى في عيادتها الخاصة، وصولا إلى أن تكون باحثة ومؤلفة مرموقة يشار إلى اسمها مع فرويد ولاكان وأعلام التحليل النفسي. ويشكل كتاب (قوى الرعب) مع كتابين لاحقين ثلاثية بارزة في مشروعها النفسي، بدأته ب قوى الرعب (1980)، ثم وضعت قصص في الحب (أو: حكايات الغرام) (1983)، والشمس السوداء (1987).
وإلى جانب هذه الثلاثية، نشير إلى كتابها الموسوم ب (غرباء عن ذواتنا)، ويتعلق جوهره بتجربة الهجرة والعيش في المنفى أو في بلد غريب لا يمكن لها أن تنتمي إليه بالمطلق. وتتأمل فيه درجات الغربة والاغتراب والنفي، مما يمثل مساهمة أصيلة في عالمنا المعاصر الذي ما زال يعيش تجارب فردية وجماعية من الهجرات الشرعية وغير الشرعية، تجارب في الانتقال والفرار أملا في عيش أفضل، لكنها كثيرا ما خلفت المآسي بدلا من تحقيق المراد.
يضع هذا الكتاب كريستيفا في دائرة المثقفين الغرباء والمنفيين ومتعددي الثقافات والانتماءات، وهم كثر في العالم، ولهم إسهام قوي ونوعي في الثقافة العالمية. يكفي أن نتذكر إدوارد سعيد الفلسطيني-الأمريكي، ولوسيان غولدمان (أستاذ كريستيفا) الروماني-الفرنسي، وتزفيتان تودوروف (البلغاري الأصل، شأن كريستيفا)، وأمين معلوف اللبناني-الفرنسي ورئيس الأكاديمية الفرنسية اليوم، في دلالة بليغة على بعض مآلات الهجرة.
وقد كتب معلوف كتابا مؤثرا لا يبعد عن مجال كتاب كريستيفا، هو كتابه المؤثر هويات قاتلة. كما كتب سعيد سيرته خارج المكان إلى جانب كتابه تأملات في المنفى. وكتب تودوروف في مرحلته ما بعد البنيوية مؤلفات لامعة حول الثقافة والهجرة والصراع الحضاري ومسألة الهوية في عالمنا المعاصر.
وكريستيفا، بعد كل سنواتها الفرنسية، تستحضر في كتاب آخر ذي طابع سيري بعنوان رحلتي تجربة الغربة التي لازمتها في سني حياتها. إذ أدركت، وهي في حالة دهشة، أنها لا تزال أجنبية في نظر الآخرين. وقد واصلت العمل على هذا الإدراك وصقلته من منظور الكتاب المنفيين الذين يعيشون في عدة ثقافات وليس في ثقافة واحدة.
تقول في تعبير شعري دال على هذا النوع الممض والمؤثر من الإحساس بالغربة:
“من هي جوليا كريستيفا التي يتحدثون عنها؟ اسمحوا لي البوح لكم بالاعتراف التالي: لقد عجزت عن الحلول في (صورتي)، تلك الواردة من طرف الآخرين؛ أعيش كما لو أنني مسافرة: يشكل الماء الحي مادتي الأولى، ويكمن هدفي في ملاحقة هذا التدفق، ثم تعبيد الطريق. لقد كتبت روايات كي أجعل هذه التجربة قابلة للتحقق والتحويل”.

قوى الرعب: عنوان عنيف يعكس عنف العالم
ولكن لماذا اختارت كريستيفا هذا العنوان العنيف (قوى الرعب: دراسة في الدناءة)؟ وما الذي أوحى لها به؟ وما علاقته بالتحليل النفسي؟ تشرح كريستيفا الظروف أو المناخات التي دفعتها إلى هذا النمط من التأليف في أحد حواراتها المشهورة مع صامويل دوك، وقد ظهر في كتاب ألقى كثيرا من الضوء على سيرتها، وترجم أجزاء منه الكاتب المغربي سعيد بوخليط.
نقتبس منه هذا الاقتباس الذي تشرح فيه كريستيفا ظروف ولادة الكتاب أو خطوطه الأولى وانبثاق مصطلح (الدناءة: Abjection). تقول كريستيفا:
“كنت ممزقة بين الافتتان الذي تمارسه كتابة سيلين [تقصد الروائي الفرنسي لويس فرديناند سيلين] باعتبارها “أوبرا غزيرة” حقيقية، ثم أيضا استبعادي للهوس المميت الذي يطويها تبعا لما يسميه ب”اليهودية أو الموت”. لا أعرف كيف يمكنني الجمع بين هذين الرافدين إبان قراءتي، وتجنب الإقرار القائم: كاتب كبير، شخص شرير.
جاءت أمي لزيارتي في باريس، ويعاني دافيد [ابنها] التهابا رئويا متكررا. صوب أريكة الطبيبة النفسانية إيلز باروند، حملت معي مباهج وكذا مآسي الأمومة: هل أنا ذات أو موضوع؟ تعاطف أو استبعاد؟ خاضعة و/أو مستقلة؟ خلال إحدى جلساتي التحليلية همست لي مريضة وهي ممددة على أريكتها بأنها حلمت بمشهد من رواية (جسر لندن) لسيلين: اهتزاز عنيف، مرعب، “معاناة أم”، تمسك أم بابنها ويتقيآن. فجأة توقد انتباهي حينما تفوهت بكلمة: دناءة. ثم استطردت السيدة قائلة: هذا ما تعيشينه أيضا، على وجه التقريب.
لحظتها، لم أكن أدري كفاية ما يلزمني القيام به، سوى اليقين بأني أمسكت بحلقة مفقودة: الرابط الذي يشكل ظاهرة سيلين. الارتياب بخصوص حدود الأنا/أنت، الشخصي/اللاشخصي، الطاهر/المدنس، يمثل مجالا مميزا للديانات (انصبت طقوس التطهير على ذلك) والتجربة الجمالية (التنفيس التراجيدي أو الكوميدي يطهر انفعالاتنا). دون ضمانة دينية ثم تشظيته للأعراف البلاغية وتحليقه بها، فإن سيلين الساحر والمقزز، العاشق والممتعض، بدون ذات ولا موضوع، ليس بكوميدي ولا متألم، “دنيء” احترق بنار هذه الكارثة الهوياتية، ضحية الدناءة ومبشر بها.
تتسامى نصوصه الروائية، بهذا القلق الذي لا يطاق، يثأر من الأمومة، أو العكس، يجعلها مثالية في إطار السمو بالراقصة الصغيرة. في المقابل، مع صفحات عمله المعنون ب(كراريس)، ينتقل سيلين نحو الفعل السياسي وتقديمه الموعظة فيما يتعلق بإبادة اليهود – ضحايا المحرقة، أمثاله وإخوانه المستبعدين – فيبعث ذلك ضحكه وبكاءه، لكن دون تحسره قط… صوب هذه الأعماق غير القابلة للشك، قادني تحليل هذه الآخرية الأولى المثيرة للعواطف التي تتمثل في العلاقة المبكرة بين الأم والطفل”.
(جوليا كريستيفا، مسارات الفكر والحياة، حوارات مع صامويل دوك، ترجمة سعيد بوخليط، خطوط وظلال، عمان، 2021)

ويفسر هذا التفاعل مع كتابات لويس فرديناند سيلين اتساع المساحة المخصصة لتجربته ورواياته ضمن كتاب كريستيفا؛ إذ حظيت بعدة فصول فاقت تقريبا المساحة المخصصة لبقية الكتاب البارزين الذين استشهدت بهم مثل: دوستويفسكي، بروست، بورخيس، آرتو، لوتريامون، كافكا.
وسيلين روائي بارز في القرن العشرين، وللأسف لم يترجم له إلى العربية إلا القليل من الأعمال، منها ترجمتان لروايته التي اهتمت بها كريستيفا (رحلة إلى أقاصي الليل)، وترجمة أخرى لرواية (الموت بالتقسيط).
ومن الجلي أن أدب سيلين يعكس عالم الديستوبيا والخراب، الذي انخرط الأدب الأوروبي في تصويره وتمثيله بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، مع ما في ذلك من تمثيلات الرعب والآلام والفوضى المريعة التي تبدو نقيضا للاستقرار وللنظام الإنساني.
ما قوى الرعب؟ وما الدناءة؟
تتأسس نظرية كريستيفا بمرجعيات فرويدية-لاكانية، عبر علاقة الطفل بالأم؛ ذلك أن الحدث المؤسس للدناءة/الإهانة هو ما يحدث قبيل مرحلة المرآة (وفق لاكان)، أي عند انفصال الطفل عن الأم وتهيئه للانتقال إلى مرحلة الاستقلال/تشكل الهوية. ما قبل هذه المرحلة هي مرحلة سيميائية، وفق كريستيفا، وما بعدها مرحلة رمزية/أبوية. هذه اللحظة المؤسسة هي ما تنشئ عند المرء مركب الدنيء والوضيع ونقيضه الرفيع والسامي.
وعبر هذا الخليط السيكولوجي يفترض أن المستوى الوضيع/الدنيء ينتمي إلى المكبوت، لكنه لا يختفي تماما؛ فله عودة أو ظهور في جولات (رجوع المكبوت) التي تستثيرها مواقف ذات صلة بالاشمئزاز واختلال الحدود. ولذلك يتراءى الدنيء فيما يزعزع الهوية ويؤدي إلى اضطرابها، والإخلال بالنظام والترتيب اللذين يعهدهما المرء في حياته الاعتيادية، مثلما تحاول المجتمعات الحفاظ عليهما وفق المنطق الرمزي والاجتماعي ذي المنحى الأبوي بحسب هذه النظرية النفسية.
وتلخص سامانثا بنتوني خطوطا بارزة في نظرية كريستيفا بخصوص الدناءة؛ إذ تقول: “إننا نختبر الدناءة أولا عند الانفصال عن الأم. هذه الفكرة مستمدة من نظرية لاكان في التحليل النفسي التي تشكل أساس نظريتها.
وتشير إلى أن الدنيء يمثل تمردا على ما منحنا وجودنا أو حالة وجودنا. عند هذه النقطة، يدخل الطفل إلى عالم الرمز، أو قانون الأب. وهكذا، عندما نواجه الدنيء كبالغين، فإننا نخاف منه ونتماهى معه في آن واحد. إنه يحفزنا على تذكر حالة وجود سابقة للدلالة (أو قانون الأب) حيث نشعر بالعجز. فالذات مهددة بشيء ليس جزءا منها من حيث الهوية واللاهوية، بشريا وغير بشري.

تعبر كريستيفا عن هذا بإيجاز عندما تقول:
“الدنيء لا يمتلك إلا صفة واحدة من صفات الموضوع، وهي معارضة الأنا. لذا، يجب أن نكون مدركين تماما للعلاقة بين الدنيء والذات. الحدود بين هذين الوضعين حدود خيالية، ومهما حاولنا إقصاء الدنيء، فإنه يبقى موجودا. عندما ندفع إلى عالم الدناءة، تتفكك حدودنا الخيالية، ويصبح البؤس تهديدا ملموسا، إذ يعطل نظام هويتنا ومفهومنا للنظام”.
لذا، تعنى نظرية كريستيفا بالشخصيات التي تمر بمرحلة انتقالية أو تحول. يقع الدنيء في حالة حدية على هامش الوضعين. تثير هذه الحالة اهتمام كريستيفا بشكل خاص نظرا للعلاقة بين التحليل النفسي والعقل الباطن.
نحن ننجذب إلى الدنيء وننفر منه في آن واحد؛ فالغثيان إدراك بيولوجي له، والخوف والأدرينالين يقران أيضا بوجوده. هذه هي المشاعر التي نتذكرها من فترة ما قبل الانفصال عن الأم. تصف كريستيفا أحد جوانب الذل بأنه “التلذذ”، وهو إحساس أشبه بالبهجة.
وتقول إنه بسبب هذا الإحساس “يدرك المرء لماذا يكون العديد من ضحايا الدناءة هم ضحاياها المفتونين بها. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن الفكرة الرئيسية لنظرية كريستيفا أن (الدنيء منحرف لأنه لا يتخلى عن أي حظر أو قاعدة أو قانون ولا يلتزم به؛ بل يبعدها ويضللها ويفسدها؛ ويستخدمها ويستغلها لإنكارها. وبالتالي فهو متلاعب، يقوض الحدود والقوانين والأعراف)”.
يغادر الكائن إذن مرحلة “الأمومة” التي تسميها كريستيفا مرحلة أمومية سيميائية، وتقابل المرحلة التخييلية عند لاكان، ويغادر متحولا أو منتقلا إلى المرحلة الأبوية-الرمزية، فيدخل عالم “اللغة” بطابعها الرمزي والتنظيمي. لكنه لا يستطيع أن يلغي ما قبل مرحلة المرآة؛ فيكبت تلك المرحلة ويدخل في النظام. وما يفعله الأدب أنه ينبش ذلك المكبوت ويتتبع ظهوراته ورجوعه الأبدي.
واستنادا إلى هذا التأسيس تعيش كل الظواهر غير الاعتيادية، المنحرفة، المختلفة، على مستوى الأفراد والجماعات. قد تشهد الذات أحيانا ضربا من الراحة أو الاستقرار في ظل المرحلة الأبوية-الرمزية، لكنها راحة مهددة بعودة المكبوت.
فما هو دنيء “له صفة أساسية: أنه مضاد ومناوئ للذات. الدنيء ذلك الشيء المنبوذ، المستثنى بشكل جوهري. إنه يأخذني إلى المكان الذي ينهار عنده المعنى”، تقول كريستيفا في إحدى تجلياتها. وانهيار المعنى معناه فقدان اللغة والعودة إلى مرحلة ما قبل اللغة، أي المرحلة السيميائية التي غادرها الكائن أو كبتها في حياته الجديدة.
الأنا الأعلى يبقي الدنيء بعيدا، يكبته، يمنعه: “الدنيء هو شيء/موضوع الكبت الأولي، ولكن لكل أنا أعلى دنيء أو مثير للدناءة، في هيئة عذاب وحشي طويل الترداد، تصبر عليه الذات وتتعارك معه دوما”.
وهكذا يغدو الدنيء، بفهم كريستيفا، ليس ما يسبب القرف أو الاشمئزاز وما قد يؤدي إلى التقيؤ ونحو ذلك من أعراض جسدية، وإنما أبعد من ذلك: “ما يسبب اضطراب الهوية، واضطراب النظام والترتيب، ما لا يحترم القواعد والحدود”.
الأدب نسخة من نهاية العالم
تقول كريستيفا في تعميم أو خلاصة حول ما يمكن أن يمثله الأدب الذي تستضيء به وتقتبس منه: “عند الفحص الدقيق، ربما يكون كل الأدب نسخة من نهاية العالم التي تبدو لي متجذرة، بغض النظر عن ظروفها الاجتماعية التاريخية، على الحدود الهشة (حالات الحدود) حيث لا توجد الهويات أو بالكاد موجودة – مزدوجة، غامضة، غير متجانسة، حيوانية، متحولة، معدلة، دنيئة”.
بعبارة أخرى يمكن ملاحظة ميل كريستيفا في قوى الرعب إلى ما يسمى بأدب “الديستوبيا” الذي يصور انهيارات الذات والموضوع معا، انهيارات عالمنا وتفككه وتحلله. هذا النوع من الأدب هو الأقدر على التماس الحدود القصوى للرفيع والوضيع معا.
ثمة انتباه لارتجاجات الهوية، وانكشاف عريها في لحظات قاسية، ولكنها مهمة وملهمة للأعمال الأدبية الخالدة، الأدب لا يولد لوصف الاتزان والنظام، وإنما لتمثيل الاختلال، واكتشافه وربما استثارته، للوصول إلى حقيقته الجوهرية وليس هيئته الظاهرية.
يهمنا هنا التأكيد على مكانة الاستبصارات الأدبية واعيا كان الأديب أو غير واع لما تتعمق فيه كتاباته، فوفقا لاختيارات كريستيفا فإن الأدب العظيم أرشيف واسع للمدنس والمقدس، للوضيع والرفيع، للدنيء والسامي، في جدل مستمر وصراع لا يتوقف، بل يمكن القول إننا لن نستطيع تمييز (السامي) أو التعرف إليه إلا عبر نقيضه، فالسمو ليس إلا محاولة شاقة لمواجهة التحديات والانهيارات التي يتسبب فيها الانتماء إلى الدنيء أو معايشته والمرور به.
الوجهة النقدية والأدبية في كتاب كريستيفا ليست جديدة تماما، وهي لم تدّع ذلك، بل كشفت عن أكثر مواردها، واقتبست من الكتب المهمة ذات الصلة، ويمثل كتاب (جورج باتاي) المعنون بـ (الأدب والشر) على سبيل المثال أحد الكتب الملهمة لها، في لفت الانتباه إلى هذا الأدب الديستوبي، كما يسميه البعض، وقد حلل باتاي كتابات كافكا، وأشار إلى أناشيد مالدورو للوتريامون في المقدمة، وإن اعتذر عن تقصير كتابه في دراستها. ولوتريامون أحد أبرز المعبرين والممثلين لمبحث أو أطروحة الدناءة لدى كريستيفا.
هذا القطاع الشرير والملعون والمكبوت والمهدد، في الوقت نفسه، يغري دوما بالتأمل والتحليل، وميزة كريستفا تتمثل في جمعها بين وجهة التحليل النفسي التي تخلط فرويد بلاكان، كمنظور جوهري للإحاطة بهذه المنطقة أو القطاع الشرير، وتقديم تفسير كلي له، وهي لا تشتق بهذا طريقا جديدا، بمقدار ما تواصل ما بدأه باتاي من وجهة اجتماعية، في الأدب والشر، وسارتر في دراسة شرور جان جينيه تحت عنوان القديس جينيه، وصولا إلى دراسة ظاهرة الجنون لدى ميشيل فوكو.
تعيدنا مثل هذه المنظورات لعلاقة الأدب بالشر والخير، ربما يتذكر بعضنا الأصمعي في مقولته القديمة: (الشعر [أوالأدب] نكد بابه الشر فإذا قيل في الخير لان)، نظريات الأدب والشر، والأدب والجنون، والأدب والمهانة والدناءة تعيدنا أو تأخذنا إلى مثل هذه الرؤى، لا بمعنى أن الأدب يتبنى الدناءة ويدافع عنها، وإنما بوصفه لونا من ألوان المواجهة، انطلاقا من الاعتراف بها عوضا عن إنكارها، يمر المرء أو الفرد بمرحلة الإنكار لا شك بمنظور التحليل النفسي، ولكن الآداب العظيمة تتجاوز الإنكار وتجابه الظاهرة المعقدة الملابسة للإنسان، خصوصا في مراحل معينة تقوى وتشتد في ظلال انكشاف دناءة الإنسان ومهانته في ظلال الحروب والأوبئة ونحو ذلك من أحوال.
الأدب الشرير، أو الصندوق الأسود للكبت المتأصل في التكوين الإنساني، ولما ينطوي عليه من طبقات، تظهر الالتزام وتخفي التلذذ بالفوضى، كان الاهتمام بهذا القطاع لا يتجاوز الاعتراف به خيطا هامشيا أو مهمشا، يتناول ضمن اهتمامات بعض المفكرين والنقاد بظواهر استثنائية أو شاذة، ولكننا في كتاب كريستيفا نجد الدائرة تتسع في ضوء اكتشاف أعماق الدناءة بمنظور التحليل النفسي، ليغدو الاهتمام بهذا القطاع سمة من سمات الأدب المؤثر والعظيم.

وبالرغم من تجاربها الثرية في التحليل النفسي فإن كريستيفا لم تلجأ في هذا الكتاب إلى دراسات حالات محددة، كما كان فرويد ولاكان يفعلان، ولكنها استندت إلى خبرات (أريكة التحليل النفسي) في قراءة الأدب بوصفه متحفا أو أرشيفا للألم والاشمئزاز ولكل ما يثير التقزز مما يعرفنا بموضوع الدنيء، وربما يغني هذا الأدب عن دراسات الحالات الفردية، ذلك أنه يكثف الخبرة الإنسانية بما فيها من خير وشر، ووضاعة وسمو، ويطمح وهو يواجه العوالم الدنيئة الغائرة المكبوتة، إلى تحويل ذلك العالم إلى تكوين جميل، مثلما يفعل فنانو المخلفات والمهملات عبر تحويل ما يتخلص منه الناس في (المزبلة) إلى تكوينات جمالية، تغير هوية الملقى والمهمل، وتبدل موقفنا منه.
الدين والأدب والفن في رأي كريستيفا من الوسائل البارزة لتطهير الدنيء أو السمو عن الدناءة، ولكن تلك الطبقة المكبوتة لا فكاك منها، ولا يمكن محوها محوا تاما، فهي قرينة السمو، ونقيضه، وما يحدّده.
قراءة هذا الكتاب تجربة شيقة وشاقة في الوقت نفسه، فهو يمتد لمعالجة صور من الديانات والأنثربولوجيا إلى جانب مادة أدبية واسعة، بالإضافة إلى منظور التحليل النفسي الذي يشكل ناظما ومنظورا جوهريا يجمع أطراف المادة المتنوعة، كما نشير إلى أسلوب المؤلفة الذي لا يقيم وزنا للأساليب الشائعة في الكتابة الأكاديمية، فيلجأ إلى صور من الكتابة الأدبية والشعرية في كثير من الأحيان بغية الوصول إلى ما يجسد أفكار المؤلفة واستبصاراتها التي تتراوح بين درجات متباينة من الغموض والوضوح.
ومن هذه الناحية فإنه لا يخلو من مسحة (باشلارية) أو ظاهراتية، تعتمد على الحدس، وعلى اكتشاف القصد من خلال السير وراء الانطباعات المتكونة من تحليل العبارات والصور وزلات اللسان وأخطاء الكتابة. وكريستيفا في كل حال تقوي صلة الأدب بالتحليل النفسي وتتابع تجارب سابقة في اعتبار الأدب لونا من ألوان الحلم وتعبيرا آخر عن المكبوت الفردي والجمعي، مما يغري بقراءته وفك شيفراته للوصول إلى المعنى الجوهري البعيد.
وإذا كانت كريستيفا قد أدركت مبكرا من خلال نظرية التناص التي طوّرتها اعتمادا على ميخائيل باختين فإن كتابها (قوى الرعب) يمثل تطبيقا فريدا لهذه النظرية، ذلك أنه ملتقى نصوص وروافد متعددة، تلتقي وتختلط، وتنشئ كيانا جديدا لا يمكن فهمه فهما معمقا بعيدا عن روافده وما فيه من كلمات الآخرين.