انتهت الامتحانات، وبدأت الإجازة الصيفية، لتبدأ مرحلة من الملل الأسري، لا يقطعها سوى الشاشات وإجازة المصيف، واللقاءات العائلية، لكن مع كل ذلك يبقى الملل سيد المشهد، والفتى المراهق لا يجد بعد أن تنتهي كل محاولاته لقضاء الوقت بعد ساعتين في صالة الألعاب الرياضية، إلا المقهى القريب، ليقضي عليه معظم وقته مع أصدقائه، الأزمة التي تنتظر أغلب فتيان البلدان العربية خلال عطلة الإجازة الصيفية. حاول محمد عمار التغلب عليها، والتواصل مع عدد من إعلانات التوظيف بدون خبرة، ليخوض تجربة العمل الصيفي لأول مرة.
من الملل إلى أول وظيفة
هذه الأزمة الصيفية المتكررة دفعت محمد عمار، البالغ من العمر 17 عاما، إلى اتخاذ خطوة مختلفة هذا العام. فبدلا من الاستسلام للروتين، قرر البحث عن فرصة عمل دون خبرة مسبقة. وبينما يعمل أغلب أصدقائه في مشاريع عائلية أو كموصّلين على دراجات نارية، لم يجد محمد في تلك الخيارات ما يناسب ظروفه كطالب أنهى لتوه الصف الأول الثانوي.
فرصة غير متوقعة وجدها على فيسبوك، إعلان عن وظيفة تدريبية في مجال خدمة العملاء داخل إحدى سلاسل الصالات الرياضية الشهيرة بالقاهرة الكبرى. شعر محمد بالحماسة، وتواصل مع الرقم المرفق، ثم أرسل سيرة ذاتية مختصرة كما طُلب منه، إلى أن حان موعد أول مقابلة عمل له على الإطلاق.
يقول محمد عمار لـ”الجزيرة نت”: “كانت أول تجربة لي في البحث عن عمل، وشعرت للمرة الأولى وكأنني موظف حقيقي. ذهبت إلى المقابلة بعد أن بحثت مسبقًا عن طبيعة خدمة العملاء، وتعلّمت كيفية التحدث مع العملاء، وفهم مفهوم رضا العميل، وكيفية إدارة مكالمة ناجحة. قضيت الليلة أتابع فيديوهات وأقرأ لأكتسب أكبر قدر من المعرفة، وهو ما ساعدني فعلاً على اجتياز المقابلة. وهناك، أخبرني المسؤول أنني قُبلت في الوظيفة”.
كانت هذه بداية مختلفة لصيف لم يشأ محمد أن يكون نسخة مكررة من السنوات الماضية.
يحكي عمار للجزيرة نت، أن ماحدث بعد ذلك، أفقده شغفه بالعمل المكتبي الأول في حياته “اعتقدت خطأ أن العمل المكتبي سيكون سهلا، وسيمنحني خبرة معقولة، لكن وجدتني أرد على مائة مكالمة يوميا على الأقل، وكان هذا لا يمكن تحمله في أول تجربة عمل”.
ورغم الراتب الضعيف، فإن ذلك لم يمنع الشاب من خوض التجربة في مقابل الخبرة، لكنه اكتشف أن العمل 9 ساعات كآلة رد على الهاتف لن يمنحه إلا صمما في الأذن وآلاما في العمود الفقري، فقرر ترك العمل بعد أسبوع فقط، كما يقول.

برامج تدريبية للنشء
تتذكر بسمة شعبان (42 عامًا) كيف كانت الإجازة الصيفية في طفولتها من أجمل فترات العام، بفضل النادي الصيفي المجاني الذي كانت توفره مدرستها، حيث كانت تقضي أوقاتها بين المكتبة، وغرفة الموسيقى، والملاعب. أما اليوم، فتشعر أن أبناءها محرومون من تلك التجربة، إذ لم تعد قادرة على دفع 5 آلاف جنيه لكل طفل مقابل تدريب صيفي خاص، كما لم تكن قادرة على تركهم في المنزل لثلاثة أشهر متواصلة.
اضطرت بسمة إلى اللجوء إلى حل بديل، فاختارت دورة تدريبية في البرمجة منخفضة التكاليف مقابل 6 آلاف جنيه للطفلين، إلى جانب اشتراك في نادٍ رياضي. وتقول “لم يكن أمامي خيار آخر، فالمدارس أصبحت مخصصة للدراسة فقط، وفرص العمل الصيفي لم تعد آمنة، خصوصًا للفتيات. هذه الدورات تمنحهم خبرة قد تفيدهم في المستقبل.”
كحلٍّ وسط، قدمت الدولة برامج تدريبية رقمية للمراهقين في مجالات البرمجة ومهارات الحاسوب عبر وزارة التربية والتعليم، كما أطلقت الأكاديمية الوطنية للتدريب برنامجًا مخصصًا للنشء. إلا أن ضعف الترويج وقلة المعلومات المتاحة حالا دون استفادة شريحة واسعة من الأسر.
توضح رانيا مصطفى، ولية أمر: “لم أعلم بوجود برنامج الأكاديمية إلا بالصدفة، ولم أجد أي معلومات واضحة عن الشروط أو المستندات المطلوبة، ولا حتى عن تفاصيل المقابلة الشخصية التي سيخضع لها ابني. الإعلان كان موجها لفئة محددة من متابعي الأكاديمية فقط.”
ورغم أهمية هذه المبادرات، فإن غياب التواصل الفعال مع الأسر، وافتقار الإعلان إلى الشفافية والوضوح، يحول دون تحقيق أهدافها، في وقت يتزايد فيه بحث أولياء الأمور عن بدائل آمنة ومفيدة لأبنائهم خلال العطلة الصيفية.

التدريبات مكلفة لكنها الحل المتاح
لا يُقاس عمل المراهق خلال الإجازة الصيفية بقيمة الراتب أو عدد ساعات العمل فحسب، بل بما يمكن أن يكتسبه من مهارات وخبرات حياتية ومهنية. فبحسب الدكتور محمد محمود حمودة، استشاري طب نفسي المراهقين، فإن الاحتكاك بالمجتمع، وبناء التواصل الفعّال مع الآخرين، والتدريب العملي الجيد، هي من أهم المكاسب التي ينبغي أن يسعى إليها الشباب خلال الإجازة.
ويؤكد حمودة في حديثه لـ”الجزيرة نت” أن الأعمال المكتبية لا تتناسب غالبا مع طبيعة المراهقين، نظرًا لميولهم السريعة إلى الملل، موضحا أن الأعمال اليدوية أو تلك التي تعتمد على تعلّم حرفة أو مهارة عملية، تظل الأنسب لهم في هذه المرحلة العمرية.
ويستعيد حمودة تجربته الشخصية قائلا “أكثر ما فعله آباؤنا حكمة، هو إرسالنا في سن صغيرة إلى الورش والمصانع لتعلّم مهارات الحياة. لم يكن الهدف أن نصبح ميكانيكيين أو فنيين، لكننا تعلّمنا من خلالها كيف نتحمل الضغوط ونفهم معنى العمل الحقيقي.”
ويضيف “اليوم، لم يعد هذا الخيار سهلًا، بل أصبح شبه مستحيل، بسبب تغيّر طبيعة المجتمع، وتبدّل ظروف العاملين في تلك المهن، مما يجعل كثيرًا من الأهالي غير مطمئنين على أبنائهم في مثل هذه البيئات.”
ويشير حمودة إلى أن مفهوم العمل الصيفي تطوّر، وأصبحت البرمجة والمهارات الرقمية تحل محل الحرف التقليدية، إذ يمكن الاعتماد عليها كتدريب مهني قابل للتطور ليصبح مستقبلًا مهنة حقيقية. كما ينوّه إلى وجود معسكرات تنموية تقدّمها مؤسسات مختلفة تحت إشراف تربوي وتأهيلي، في مجالات متعددة. ورغم أن هذه البرامج مدفوعة التكاليف، فإنها تمنح المراهقين فرصة لاكتساب مهارات حياتية مهمة، وتأهيل نفسي واجتماعي يساعدهم على فهم المجتمع والاستعداد الجيد لما هو قادم.