القاهرة – فقدت مصر والعالم العربي والإسلامي اليوم السبت الموافق 12 يوليو/تموز 2025، أحد أعلام الاقتصاد الإسلامي برحيل رفعت السيد العوضي، أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية.
توفي العوضي عن عمر ناهز 87 عامًا، حيث يُعد من أبرز الشخصيات الفكرية والأكاديمية في مجال الاقتصاد الإسلامي التي أسهمت في ترسيخ هذا الحقل العلمي، وتأصيل مفاهيمه المستمدة من الشريعة الإسلامية.
وقد ترك الراحل بصمة واضحة في مجالات التدريس والتأليف والبحث العلمي، حيث جمع في شخصيته بين عمق التخصص وغزارة الإنتاج العلمي، وشكّل مرجعا للعديد من طلابه وزملائه، وللمؤسسات التي عمل فيها أو شارك في مؤتمراتها ومجامعها العلمية.
وقد نعى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، العوضي، مشيدًا بعطائه الممتد وجهوده في خدمة العلم والاقتصاد الإسلامي، سواء في جامعة الأزهر أو في جامعات ومراكز بحثية عديدة في العالم العربي والإسلامي.
وأكد الأزهر في بيان نعيه أن الفقيد كان نموذجا فريدا في الجمع بين التخصص الأكاديمي والدراسة الشرعية، وأسهم في ترسيخ مفاهيم العدالة الاقتصادية في ضوء الشريعة الغراء، عبر مشاركته الفاعلة في المجامع العلمية، وعلى رأسها مجمع البحوث الإسلامية، الذي كان عضوا بارزا فيه.
كما نعى مجمع البحوث الإسلامية الفقيد، واصفا إياه بأنه “علمٌ بارز في الاقتصاد الإسلامي”، جمع بين عمق التخصص وغزارة الإنتاج العلمي، وأسهم بعلمه وجهده في إثراء المكتبة الإسلامية، وخدمة قضايا التنمية والاقتصاد من منظور إسلامي.
وأكد المجمع أن الدكتور العوضي كان صاحب رؤية علمية رصينة، وأحد الأصوات المؤثرة في تعزيز الفكر الاقتصادي الإسلامي، سواء من خلال كتاباته، أو مشاركته في المؤتمرات والندوات، أو تدريسه لأجيال من الطلاب داخل مصر وخارجها.
ومن جانبه، عبّر الدكتور نظير محمد عياد، مفتي مصر، عن بالغ حزنه لرحيل الدكتور رفعت العوضي، واصفًا إياه بأنه من رجالات الفكر الإسلامي الذين جمعوا بين رسوخ العلم ونبل الرسالة، حيث وهب حياته للعلم، وامتزجت شخصيته بمعالم البحث الرصين والالتزام بمقاصد الشريعة، مع تواضع العلماء الحقيقيين وأخلاقهم الرفيعة.

مولده ونشأته
وُلد الدكتور رفعت السيد العوضي عام 1938 في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ (دلتا مصر) شمال القاهرة، ونشأ في بيئة أزهرية تقليدية، حيث حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، والتحق بالتعليم الأزهري وتدرج فيه حتى حصل على الثانوية الأزهرية عام 1961.
دراسته الأكاديمية
في ظل تطوير جامعة الأزهر آنذاك، التحق بكلية المعاملات والإدارة -المعروفة لاحقًا باسم كلية التجارة- ضمن أول دفعة تُقبل وفق النظام الجديد.
ورغم ميوله نحو الهندسة، فإن أحد أساتذته نصحه بالاستمرار في دراسة الاقتصاد والتميز فيه، وهو القرار الذي شكل نقطة تحول في مسيرته العلمية.
كان من الطلاب المتفوقين، وتم تعيينه معيدا بالكلية عقب تخرجه عام 1966. ولم تكن هناك برامج دراسات عليا حينها، فكان ضمن أوائل من التحقوا بأول دفعة من برامج الماجستير في قسم الاقتصاد بعد إنشائها.
أول رسالة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي
وفي عام 1972، حصل على أول درجة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي على مستوى العالم العربي والإسلامي، وكان عنوان رسالته: “نظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي”، تحت إشراف المستشار الدكتور محمد شوقي الفنجري والدكتور صلاح الدين نامق.
قوبلت الرسالة باهتمام واسع، ونُشرت لاحقا عن طريق مجمع البحوث الإسلامية، واعتُبرت مرجعا تأسيسيا في هذا الحقل العلمي الناشئ آنذاك.
أول أستاذ اقتصاد إسلامي بجامعة الأزهر
واصل العوضي مسيرته العلمية خارج مصر، حيث أمضى عدة سنوات في سويسرا، ثم حصل على درجة الدكتوراه بعنوان “التخطيط في الاقتصاد الإسلامي” بعد معاناة في إقناع المشرفين بهذا العلم الجديد. وفي عام 1980، عُين أستاذًا في الكلية، ليصبح بذلك أول مدرس متخصص في الاقتصاد الإسلامي بها.
مسيرة أكاديمية وإنتاج علمي متميز
طوال أكثر من 60 عامًا، كرّس العوضي حياته العلمية لتأصيل وتطوير الفكر الاقتصادي الإسلامي، وأصبح من أبرز منظّريه في العالم الإسلامي، فجمع بين التحليل الاقتصادي المعاصر والأصول الفقهية المستمدة من الشريعة.
انتماؤه السياسي
شارك العوضي بفعالية في النشاط الطلابي خلال فترة دراسته في ستينيات القرن الماضي، وكان له دور بارز في اتحاد الطلاب.
أما عن انتماءاته السياسية، فقد صرّح عن نفسه في آخر لقاء بودكاست مصور له عام 2024 قائلا “ليس لدي انتماء سياسي، ومنفتح على جميع التيارات السياسية، وأشجع على الاستقلال الفكري.”
حياته العملية
بالإضافة إلى عمله في جامعة الأزهر كمعيد، ثم مدرس مساعد، وصولًا إلى توليه رئاسة قسم الاقتصاد بكلية التجارة، تنقل العوضي في عدد من الدول العربية والإسلامية، حيث شغل عدة مناصب أكاديمية مرموقة.
فقد عمل أستاذًا زائرًا للاقتصاد الإسلامي في جامعة قطر خلال عامَي 1981 – 1982، ثم أستاذا مشاركا في جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية من 1983 إلى 1987.
كما عمل أيضا مدرسا في “المعهد العالي للدراسات الإسلامية” بالجيزة، مقدمًا خلالها إسهامات تعليمية وفكرية في مجال الاقتصاد الإسلامي، ومساهمًا في تخريج أجيال من الباحثين في هذا التخصص.
من أبرز مؤلفاته التي أصبحت مراجع أكاديمية:
- “منهج الادخار والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي”
- “من التراث الاقتصادي للمسلمين” – كتَبه خلال فترة إعارته في مكة.
- “الاقتصاد الإسلامي: مصادره وتطوره وموضوعه” (1986) – ويعد من أهم المراجع المتخصصة.
- “تكامل الاقتصاد في العالم الإسلامي” (1989)
- “نقود الدولة الإسلامية” (1990)
- “الضريبة في الإسلام” (1991)
- “الأولويات الاقتصادية في الإسلام” (1992)
- “النظام الاقتصادي الإسلامي” (1996)
- “النظام المالي في الإسلام” (1997)
- “الضوابط الشرعية للاقتصاد” (1998)
- “عالم إسلامي بلا فقر” – صدر في قطر (2001)
- “المسلمون والعولمة” (2001)
- “القيم الضابطة للمصرفية الإسلامية” (2005)
كما كانت له إسهامات معتبرة في الاقتصاد الوضعي، لكنه انشغل لاحقا بالكتابة في الاقتصاد الإسلامي ليصبح تخصصه الرئيسي، كان أول من كتب في “المصطلحات الاقتصادية في القرآن الكريم والسنة النبوية”، وله بحث معروف في هذا المجال قُدّم في باكستان.
من الاقتصاد إلى الإعجاز العلمي
يمكن تقسيم حياة العوضي العلمية إلى مرحلتين:
- المرحلة الأولى: انشغاله التام بقضايا الاقتصاد الإسلامي.
- المرحلة الثانية: التفرغ للإسهام في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة.
أولى اهتماما خاصا بمجال الإعجاز في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكان يعتبره من أحدث العلوم الإسلامية وأكثرها تأثيرا في الغرب، حيث أشار إلى أن كثيرا من المفكرين الأوروبيين اعتنقوا الإسلام نتيجة اطلاعهم على أبحاث الإعجاز العلمي.

من أبرز أبحاثه في هذا المجال:
- “التوازن الكلي وحماية البيئة في الإسلام” – قدمه عام 2003 في مؤتمر بالمنظمة العربية للتنمية الإدارية في دبي.
- “الإعجاز في آيات قصة شعيب عليه السلام”.
- “الإعجاز التشريعي في الزكاة”.
- “ضوابط البحث في الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية”.
- “الإعجاز في تشريع الميراث” (2008).
- “الإعجاز التشريعي في بناء الاقتصاد الأسري في الإسلام” (2010).
- “إعجاز القرآن في العلوم الاجتماعية” (2012).
وكان مفكر الاقتصاد الإسلامي يرى أن الإعجاز العلمي أصبح أحد أهم أدوات الدعوة الإسلامية الحديثة، وخاصة في أوروبا والدول الغربية، لما له من قدرة على مخاطبة العقول العلمية والمنطقية بلغة البرهان والمعرفة.
زملاء وتلاميذ.. إرث باقٍ وراية لم تنكس
يقول زميله وتلميذه أيضا محمد السيد محمد برث، عميد كلية التجارة بجامعة الأزهر سابقا، والمستشار المالي لرئيس جامعة الأزهر، وعضو لجنة الرقابة الشرعية المركزية بالهيئة العامة للرقابة المالية إن “العوضي صاحب أول رسالة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي في العالم العربي والإسلامي أفنى حياته في علم الاقتصاد الإسلامي حتى الرمق الأخير، ولم يترك القلم ولا الحديث حتى لحظاته الأخيرة”.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ”الجزيرة نت” أن الدكتور العوضي قد رحل بجسده، لكن إرثه العلمي والفكري لا يزال حيًّا، حاضراً في كتبه وأبحاثه ومحاضراته، وفي طلابه المنتشرين في أرجاء العالم الإسلامي.
وأكد المتحدث أن العوضي ترك نموذجا نادرا للعالِم الذي جمع بين دقة التحليل الاقتصادي وعمق الفهم الشرعي، وارتقى بعلم الاقتصاد الإسلامي من شعارات نظرية إلى منظومة أكاديمية رصينة تستند إلى منهج علمي وتأصيل شرعي متين.
يحسب للعوضي، يضيف برث، أنه فتح الباب أمام جيل جديد من الباحثين في مجال الإعجاز العلمي في العلوم الإنسانية، وقد نقل علمه خلال جولاته العلمية وندواته ومشاركاته في المؤتمرات الدولية، مؤثرًا في عدد من المؤسسات الاقتصادية والدينية والعلمية حول العالم.
وختم زميله وتلميذه حديثه بالقول، إلى جانب علمه الغزير، كان العوضي يتمتع بأخلاق رفيعة قلّ نظيرها، عرف عنه التواضع وكرم النفس، ولم يبخل يومًا على زملائه وطلابه أو الباحثين بمعلومة، بل كان سخيّا في عطائه، جوادا بعلمه، كريمًا بأفكاره، فكان -كما يُقال- “عالمًا بأدبه، وأديبًا بعلمه”.