“شيء ما يحدث لكن لا أحد يتحدث عنه
ثمة صوت يهمس في العتمة
خطى تتردد على أرض غريبة
عيون تراقبك من بين الشقوق
وخشبة مسرح لم تعد كما كانت
لا نعدك بالفهم، ولا نضمن لك الراحة
لكننا نعرف جيدا أنك لن تخرج كما دخلت.
أشلاء
ليس كل ما تراه حقيقة وليس كل صمت أمان”.
بهذه الكلمات الموجعة والمؤثرة على لسان الراوي الذي يحمل اسم “صدى” وعلى أنغام حزينة وعزف موسيقي حي على آلة الفيولونسيل أو التشيلو للموسيقي سهيل الصباحي، تنطلق مسرحية “أشلاء” للمخرج المغربي محمد فركاني.
“أشلاء” قدمت عرضها الأول مساء الاثنين 26 مايو/ أيار الماضي بقاعة أبا حنينني التابعة لوزارة الثقافة المغربية بالرباط، محذرة الجمهور من أنهم لن يخرجوا من هذا العرض كما دخلوا إليه، لأنه يتناول موضوعا حساسا يوجع الجميع في الوقت الراهن بسبب الحروب المتواصلة التي تخلف الدمار على مختلف المستويات، ولكن أشدها الدمار النفسي ومحاولة جمع شتات الروح لمواصلة العيش والمقاومة.
فهي مسرحية تجريبية كوريغرافية (الكوريغرافيا فن تصميم الرقصات) استعاضت عن الخطاب والكلام الكثير بلغة الجسد، فكانت الرقصات التعبيرية الرهيبة للثلاثي: محمد شهير وزاهو الهواوي وحنان العلام، إضافة إلى محمد فركاني (مخرج المسرحية) الذي يشارك في تشخيصها أيضا.
وتجسد المسرحية الرعب والدمار الذي تخلفه الحروب، وتقدم أجسادا تقاوم القصف وتهرب من أزيز الطائرات المتكرر، وصوت الانفجارات المدوية التي تخلفها وتأتي على الأخضر واليابس، وتحول أجسام الإنسان إلى مجرد أشلاء.
كل ذلك أمام مرأى العالم وفي صمت وتواطؤ غير مسبوق، كما لو أن الإنسان لم يعد له اعتبار في هذا العالم الذي أصبح مجردا من كل القيم والمبادئ الإنسانية.

الحرب والدمار النفسي
فعلى مدى ساعة، استطاعت “أشلاء” التي ألفها الكاتب المسرحي عمران الوطني، وأخرجها وأعد الدراماتورجيا الخاصة بها المخرج فركاني، أن تقدم صورة حقيقية عن الفظاعات التي تخلفها الحرب على الإنسان، وتحديدا الدمار النفسي والتوترات للكائن البشري.
ومن خلال عرض كوريغرافي يجمع بين التشخيص والرقص التعبيري والغناء والموسيقى الحيين، والسينوغرافيا الوظيفية التي اعتمد فيها مخرج هذا العمل ومعد السينوغرافيا فركاني على تأثيث الركح بالعديد من الجثث الملقاة أرضا، وعلى تقنية الفيديو مابينغ الذي يظهر في الشاشة الخلفية مظاهر الحرب والدمار والدخان والتراب، وتسمع فيه أصوات الأطفال والنساء يستنجدون ويصرخون، وفي بعض منها أصوات أطفال غزة الذين يناشدون أمهاتهم “ما تخليني يا ماما”.
كما تجسد المسرحية آلام الأطفال والنساء الذين أمعنت آلة التقتيل الهمجية الإسرائيلية في تصفيتهم بالدرجة الأولى، إلى جانب الشباب والشيوخ.
وتبدأ الحكاية من سؤال الموت كما يقول “فجر” الذي يشخصه فركاني في المسرحية “من هنا بدأت الحكاية، كانت الأرض صامتة والسماء حبلى بالغيوم الداكنة، وكان الألم في الهواء لكنه لم ينطق بعد. وإذا كان الموت هو مصيرنا، فلنمنحه معنى. وإذا كانت الحياة تهرب منا، فلنمسك بها بقوة هنا والآن”.
غير أن هذه الحياة قد تنفرط من بين أصابع من يواجهونها، وتسقطهم وهم في عز المقاومة أرضا مثلما جاء في اللوحة الكوريغرافية التي تظهر الثلاثي الراقص منبطحين أرضا يقاومون الأوجاع ويحاولون التشبث بالحياة، حيث يعلو صوت الراوي (صدى) الذي يشخصه الفنان المغربي بادي الرياحي، ويقول لمن تبكيهم: لا تبك عليهم إنهم تحت الأنقاض ولن يسمعوك”.
لتنفجر متسائلة “لماذا تركونا؟ ولماذا ولدنا؟ ولماذا تولد الأوطان إذا كان الرماد نهايتها؟ ولماذا نحن هنا؟”.

الوطن وانكسار الروح
ويجيبها “صدى” الذي يمثل صوت الضمير الإنساني -في المسرحية- وصوت المدنيين الذين ضاعت صرخاتهم وسط ضجيج الموت بأننا هنا لأننا فقدنا لغة الحياة لأننا اكتفينا بالصمت. ثم يعلو صوت فركاني فيقول “من هذا الصمت ولدنا، لكننا نسينا من نحن. أسماؤنا صارت نقشا على الحجارة”.
ثم ينطلق صوت المغنية الحماسي بأغنية “إني اخترتك يا وطني” للفنان مارسيل خليفة وهي من كلمات الشاعر الفلسطيني الغجري وشاعر المقاومة علي فودة، حيث لم يكن اختيار الأغنية اعتباطيا، بل جاء ليعبر عن قمة الإحساس بالوطنية، حيث اعتبرت نشيدا للهوية الفلسطينية، وهي جزء مستقطع من قصيدة “الغضب، الفهد” المنشورة ضمن ديوانه “عواء الذئب”.
كما أن مصير صاحبها يتماشى وموضوع المسرحية، لأنه توفي إثر القصف الإسرائيلي على بيروت عام 1982، ومع ذلك ما زال خالدا عبر أشعاره، لينطلق صوت “راوية” قائلا:
“الرماد لا يموت لأن تحت الأنقاض حياة. هل حقا سيأتي الصباح وسيأتي النور؟ نحن هنا لأننا فقدنا لغة الحياة. الحرب لا تقتلنا فقط بل تسرق منا الحق في الحلم. نحن لسنا بشرا بعد الآن. نحن أشلاء. الحرب ليست دمارا للبيوت فقط، بل شتات للأرواح. الحرب تجردنا من كل شيء، ولكنها تترك شيئا واحدا وهو الفراغ”.
وانطلاقا من سؤال الوطن، الذي تقول المسرحية إنه “فكرة لها قدمان، تمشي، تقفز، تركض، يكفي أن نؤمن بها. الوطن أن تجد مكانا تستطيع أن تكون فيه إنسانا دون خوف” وعلى إيقاع موسيقى حية ورقصات تعبيرية تصرخ فيها “راوية” متسائلة: لماذا تقتل الحروب البشر؟ وتقول: الحروب ليست بشعة فقط، إنها تجردنا من إنسانيتنا وتجعلنا عراة أمام حقيقتنا الدموية. وهو ما تبرزه الشاشة الخلفية التي جاءت على شكل جدار يضم بابا تخرج منه شخصية “فجر” وهي بوابة الأمل.

في حين تظل الأبواب الأخرى موصدة وشفافة تظهر ظلالا لأجساد تحت الأنقاض. فهذا الجدار الملطخ بالدماء يرمز إلى الفصل والعزلة، وربما إلى الفناء، وقد يكون الخط الرفيع الفاصل بين عالمي الأحياء والأموات. كما أن الملابس المصممة للعرض تم المزج فيها بين زي المحاربين القدامى واللمسة العصرية، وحملت الملابس البيضاء الداخلية آثار الدماء.
أما الإضاءة فكانت باهتة وقاتمة في مجملها، تحاكي الغمة الوجودية التي تعيشها الشخصيات داخل هذا العرض المسرحي الذي تشكل فيه الموسيقى الحية والغناء عنصرا أساسيا، حيث يختتم العرض بصوت المغنية منال فركاني الذي يصدح من جديد بأغنية فيروز “وينن” من كلمات وألحان الأخوين الرحباني في مسرحية “ناطورة المفاتيح” المقدمة عام 1972، والتي مازالت تعبر عن صرخة الانكسار والألم والرغبة في الإصرار والتحدي من أجل مواصلة العيش.
فالصدى الذي يخلفه حرف النون في “وينن”:
“وَيْنُنْ .. وَيْنُنْ
وَيْنْ صْوَاتُنْ وَيْنْ وْجُوهُنْ
وَيْنُنْ
صار فِي وادي بَينِي وبَينُنْ
وَيْنُنْ…”
هذا الصدى يخبر الجمهور بأنه رغم التقتيل والموت، فإن العودة حتمية لا ريب، وأنه رغم كل الحروب والعدوان فإن من رحلوا سيعودون، لتنتهي المسرحية بجرعة أمل وتفاؤل رغم الفظاعات التي نعيشها في ظل الحروب.

صرخة جسد ضد الحرب
وعن مسرحية “أشلاء” المستفيدة من دعم الكوريغرافيا لوزارة الثقافة المغربية، يقول المخرج للجزيرة نت إنها صرخة جسد ضد الحرب، وقد جاءته فكرتها
“من لحظة إنسانية صادمة، كنت أتصفح “إنستغرام” حين صادفت مقطع فيديو لقصف في غزة، تظهر فيه جثث مرمية على الأرض ورجال يحملون الموتى على عربات بسيطة. مشهد إنساني مؤلم هز كياني، وطرح في داخلي سؤالا وجوديا: كيف وصل بنا الحال إلى أن يصبح الإنسان مجرد أشلاء متناثرة؟ ومن هنا انطلقت في مشروع فني أعبر فيه عن غضبي وسخطي تجاه الحروب العبثية التي لا تنتهي”.
ويضيف فركاني بأنه كفنان مسرحي قرر أن يبدع عملا في الموضوع وتكون لغته الأساسية هي الجسد، لأنها أصدق وسيلة للتعبير، ولأن الألم مشترك بين بني البشر مهما اختلفت لغاتهم.
وأنه بعد مناقشة الفكرة مع الدكتور المتخصص في سوسيولوجيا الثقافة والكاتب المسرحي عمران الوطني، والذي “يملك نصا مسرحيا حول الحروب، وقريب من الفكرة العامة للمشروع الذي أشتغل عليه، لكنني رغبت في مزيد من الحركية واللغة الجسدية، فاقترحت عليه أن أشتغل عليه دراماتورجيا، وهو ما رحب به مشكورا”.
وقال “جاء العمل المسرحي (أشلاء) بتركيبة فنية وبلغة تعبيرية تجمع بين الكوريغرافيا والتشخيص والكلمة، تحمل في عمقها أبعادا فلسفية وإنسانية، وتسائل المتلقي عن جدوى الحروب، عن الموت المجاني، وعن الهشاشة التي صارت تحاصر الكائن الإنساني. وجعلت من العمل تجربة حية، تمزج بين التعبير الجسدي والغناء والموسيقى الحية، وتقنيات الفيديو، دون الانشغال بالتصنيف، لأنني أرى أن الإحساس يسبق كل الأجناس الفنية”.

الإمساك بلحظة ما بعد الانفجار
ومن جهته، يوضح الدكتور “الوطني” الذي يُدرس بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي -للجزيرة نت- أن فكرة كتابة “أشلاء” لم تولد من فراغ، بل كانت استجابة داخلية لضجيج صامت يسكن وجدان الإنسان المعاصر الذي بات يجاور صور الدمار يوميا، سواء عبر الأخبار أو التجارب المباشرة، لأن الحرب لم تعد حدثا بعيدا، بل أصبحت جزءا من الوعي الجمعي، خصوصا في مجتمعاتنا التي عرفت وجعها عن قرب.
ويقول الكاتب “ما شدني تحديدا هو ما تتركه الحروب خلفها، لا فقط في البنى والمباني، بل في النفوس. كنت مشغولا بالسؤال: ماذا يحدث للناجين؟ كيف يعيشون مع الذكريات؟ كيف يبنون أنفسهم من جديد؟ ومن هنا، جاءت “أشلاء” تجربة مسرحية تحاول الإمساك باللحظة ما بعد الانفجار، عندما يهدأ الدخان، ويبقى الإنسان وجها لوجه مع ذاته، مع ذاكرته، ومع عالم لم يعد يعرفه. حيث اخترت 3 شخصيات متباينة (راوية، صدى، فجر) لأنه يبدو أن آثار الحرب ليست واحدة، بل تتجلى وفق العمر، والخلفية، ودرجة الصدمة. لذا، أردت أن يكون النص مرآة لتجارب متقاطعة: من يكتب، من يبني، ومن يهرب”.
ويؤكد الوطني أنه لم يرغب في أن يدين الحرب في “أشلاء” بل أن ينصت لما تتركه في صمت الناجين، وأن تكون مساحة للبوح، والتأمل، وربما للشفاء، ولو بالكلمات. وهكذا التقت فكرته ورؤيته البحثية الإبداعية التي تسعى إلى مساءلة الذاكرة الجماعية للضحايا والناجين مع الرؤية الفنية التجريبية التي تبحث عن التجسيد البصري والجسدي للمعاناة للمخرج فركاني.
فجاء هذا العمل كما يقول “نتيجة نقاشات فكرية وفنية عميقة جمعتني بالمبدع فركاني الذي عبر عن رغبته في إنجاز عمل مسرحي كوريغرافي يتناول تيمة الحروب ومخلفاتها. وبما أن فعل الكتابة، بالنسبة إلي، ليس مجرد استجابة عاطفية أو تلقائية، بل هو فعل إبداعي مشبع بالشغف، ومؤطر في ذات الوقت بضوابط معرفية وأسس أكاديمية، فقد وجدت نفسي مدفوعا إلى العودة للمصادر الأساسية: مراجع في علم النفس، السوسيولوجيا، دراسات ما بعد الصدمة، وتجارب مسرحية سابقة من مناطق النزاع”.

الحرب والمسرح التجريبي
وبهذا الشكل، فإن من شاهد المسرحية يقف على هذا العمق الفكري والنفسي والخلفية الأكاديمية حول الحروب وآثارها على البشر قبل الحجر، والذي سبق وتناولته مسرحيات مغربية حديثة سوار كانت مقتبسة أو مؤلفة من طرف تاب مغاربة من مثل مسرحية “سحت الليل” للمخرج والمؤلف عمر جدلي، ومسرحية قاسم والضاوية” للكاتب محمد زيطان ومن إخراج ياسين أحجام، والمسرحية العبثية الساخرة الأمازيغية “نزهة في ميدان المعركة” للمخرج يوسف العرقوبي المقتبسة من نص فرناندو أربال والتي تتناول تأثير الحرب على الأفراد.
إن “أشلاء” تتميز باشتغالها على الجوانب النفسية الحساسة بتقنيات جمالية عالية تمزج بين الموسيقى والغناء الحيين والرقص والتشخيص مع النص الدرامي، وهي الأدوات أو التقنيات التي أصبحت بصمة خاصة بالمخرج المغربي فركاني مؤسس فرقة “مسرح فركانيزم” التي تحمل اسمه العائلي وتعمل بانتظام بمدينة سلا الجديدة (بالقرب من العاصمة الرباط).
ولمنحاه المسرحي التجريبي الذي يقدم فيه ما يعادل مسرحيتين أو ثلاثا في السنة رغم قلة الإمكانيات، وهزالة الدعم المقدم لمثل هذه الأعمال التي لا تبخل على الجمهور بتقديم فرجة مسرحية متكاملة، وتناول قضايا وطنية قريبة منهم أو قضايا كونية حساسة تدعو الجمهور إلى التساؤل باستمرار.
وعن القالب التجريبي لهذا العمل المسرحي من هذا النوع في ريبرتروار المسرحي المغربي فركاني، الذي قدم حوالي 20 عملا مسرحيا منذ تخرجه من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط عام 2011 وتأسيسه لفرقته المسرحية عام 2014، يقول فركاني إنه حاول في “أشلاء” تجريب “مجموعة من المحاولات الفنية التي قد تترك انطباعا إيجابيا لدى المتلقي وقد لا تعجبه، وذلك جزء من جوهر التجريب”.
“هو العمل السادس لي كمخرج ضمن هذا النوع من العروض التي أُحاول من خلالها دمج عناصر متعددة: الجسد، الحركة، الكوريغرافيا، التشخيص، السرد، الغناء، العزف الحي، وتقنيات الفيديو، في بنية درامية تتأسس على التجريب والتقاطع بين الفنون”. وقد يصنف هذا النوع ضمن “المسرح ما بعد الدراما” وقد يختار آخرون له تسميات مختلفة “أما أنا فلا أجد له تسمية أبلغ من رغبتي في أن يشعر المتلقي بما يحدث على الخشبة”.

الحرب كتحول داخلي
ويشير المخرج فركاني إلى أنه وفق إلى حد ما في “أشلاء” في إيصال مشاعر شخصيات العمل للجمهور، وهو ما ساعد فيه الموضوع نفسه الذي يفرض حضوره بقوة: الحرب وما تخلفه من دمار نفسي وإنساني. والشيء نفسه يؤكده كاتب النص “الوطني” الذي يقول إن التركيز على الجانب النفسي في المسرحية جاء انطلاقا من وعي بأن الحرب لا تنتهي عند حدود الدمار المادي، بل تترك آثارا عميقة في البنية النفسية للإنسان، تعيد تشكيل علاقته بذاته وبالعالم.
وهذا “ليس فقط خيارا دراميا، بل هو إبداع مؤطر بمعرفة أكاديمية تستند إلى دراسات الصدمة والاضطرابات النفسية الناتجة عن النزاعات. فالمسرح هنا لا يقدم تمثيلا للحرب كحدث خارجي، بل كتحول داخلي يمس القدرة على الحلم، المعنى، والاستمرار.
وتعبر الجملة القائلة إن “الحرب لا تقتلنا فقط، بل تسرق منا الحق في الحلم” عن هذا التوجه الجمالي المعرفي، حيث يتحول النص المسرحي إلى مساءلة للدمار الصامت الذي يسكن الناجين ويعيد إنتاج العنف داخلهم، بعيدا عن الصورة النمطية للمواجهة الجسدية المباشرة”.
ويضيف الوطني أن “أشلاء” تقارب الحروب بصفة عامة وتتخذ بعدا وجوديا يعيد موضعة الذات الإنسانية في سؤال ما بعد الحرب، ذلك التيه الذي يصيب الإنسان بفعل الفراغ النفسي الناتج عن الدمار وما بعد الصراع.
وهي بهذا تقدم مقاربة فنية تتجاوز الحروب الحديثة أو المعاصرة أو المستشرفة، حيث تركز البحث على البعد الوجودي النفسي والاجتماعي العميق لما تحمله الحرب من انكسارات داخلية تتعدى الزمان والمكان، لأن المسرح هو الفضاء الحي، كما يقول “لمقاربة الأبعاد النفسية والاجتماعية المرتبطة بالحروب ومخلفاتها”.
إذ تتجاوز الحروب كونها أحداثا مادية خارجية، لتصبح تجارب نفسية عميقة تتغلغل في وجدان الفرد والجماعة، محدثة اضطرابات نفسية مثل الصدمة والاغتراب، وتؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وهشاشة الهوية.
وتوفر المسرحية بذلك، من خلال أدواتها التعبيرية مثل الجسد والحوار والرموز والموسيقى الحية، مساحة لإبراز هذه التوترات النفسية والاجتماعية، مما يسمح بفهم أعمق لتشابك العوامل التي تؤثر على الإنسان زمن الحرب، من انكسار داخلي إلى اضطراب في البنية الجماعية، مما يمكن الجمهور من استيعاب المأساة الإنسانية عبر وعي نقدي يعيد تأمل معاني الانتماء والكرامة والهوية في ظل العنف المستمر.

جدوى المسرح زمن الحرب
وبهذا الشكل يصبح للمسرح خاصة وللفنون عامة فاعلية وجدوى زمن الحرب، على عكس من يعتقد أنها لن تضيف أي شيء للإنسانية. وعن هذه المسألة يقول الكاتب “الوطني” إنه في سياق الحروب والدمار، يكتسب المسرح وظيفة اجتماعية تتجاوز البعد الجمالي أو الترفيهي، ليصبح:
“وسيلة للتفكير الجماعي في المعاناة والتفكك الذي يصيب البنية الاجتماعية. فالمسرح، بوصفه شكلا من أشكال التعبير الرمزي، يساهم في ترميز الصدمة، وإعادة إنتاج المعنى، وفتح المجال أمام مساءلة جماعية للواقع. كما يوفر مساحة للتفريغ الرمزي والتواصل، مما يساعد على بناء ذاكرة جماعية وتفكيك الآثار النفسية والاجتماعية للعنف. ومن هذا المنظور، ينظر إلى المسرح كأداة لتحفيز الوعي وإعادة تشكيل الروابط الرمزية داخل المجتمع في لحظات الأزمات والانهيار”.

نموذج للتوافق مسرحي
وفي الختام نرغب أن نشيد بهذا التوافق والاشتغال المشترك بين المؤلف والمخرج في مسرحية “أشلاء” لأنه في السنوات الأخيرة أثيرت على الأقل في المغرب مسألة مفارقات النص المسرحي والإخراج، وانعدام التواصل بين المخرج والكاتب، وعدم احترام المخرج للنص المسرحي ولروحه في بعض الأحيان.
وهو ما شهده المهرجان الوطني للمسرح الاحترافي بدورته الأخيرة في تطوان، حين أثار الأمر الكاتب المسرحي أحمد السبياع، وتحدث عن عدم احترام المخرجة مريم الزعيمي لنصه المسرحي “فوضى” وتحويرها لروحه دون الرجوع إليه، هو ما أثارته لجنة تحكيم تلك الدورة.
وعن هذا العمل المشترك والتوافق، يقول “الوطني” إن مسرحية “أشلاء” أول عمل “يؤسس لعلاقة تأليفية مباشرة بينه وبين المخرج المبدع فركاني، غير أن هذه العلاقة لم تكن وليدة لحظة طارئة، بل امتداد تجارب سابقة اشتغلت فيها كمقتبس إلى جانب فركاني في عدد من أعمال فرقة مسرح فركانيزم”.
وقد ساهم هذا التراكم المهني والفني في بناء رأسمال رمزي ومعرفي مشترك، مما “أرسى نوعا من التوافق الضمني حول التوجهات الجمالية والفكرية للعمل المسرحي”.
ويخلص إلى أن هذا التراكم أسهم من منظور سوسيولوجي في تقليص المفارقات المعتادة التي كثيرا ما تطبع العلاقة بين الكاتب والمخرج، سواء على مستوى السلطة التأويلية للنص، أو ما يتعلق بتوزيع الأدوار داخل النسق الإبداعي.
لقد سمح هذا المسار التشاركي بتشكيل فضاء حواري قائم على الثقة المتبادلة، حيث ينظر إلى النص لا كمعطى مغلق، بل كجسد قابل للتأويل ضمن رؤية إخراجية تحترم أسسه، وتفعل دلالاته داخل السياق الركحي.
ومن جهته، يؤكد فركاني هذا التوافق والعمل المشترك مع المؤلف على هذا العمل المسرحي الذي لم يكن يشكل لكليهما مشروعا فنيا فحسب، بل هو “موقف إنساني عميق، وصرخة ضد اللاجدوى، وشهادة فنية على زمن الحروب والخراب. وهو محاولة لاستعادة إنسانيتنا وسط الركام، ولإعادة الاعتبار لصوت الإنسان، ولجسده وألمه. ففي زمن تتكاثر فيه الأصوات المبررة للدمار، لا بد أن يكون للمسرح وللفن عموما، صوته الخاص: واضحا، صادقا، وموجعا أحيانا”.